مصر وزراعتها ومزارعوها

01 أكتوبر 2024

(مروان نصّار)

+ الخط -

تعاني مصر من أزمات متعدّدة في الغذاء والمنتجات الزراعية، من الحبوب والخضروات وأسعارها القياسية. بالذات السلع الأساسية من البطاطس والطماطم والبصل، التي هي عماد المطبخ المصري والنظام الغذائي الذي أسّسه الفقر وآليات التكيّف معه على نظرية الحصول على أكبر قدر من السعرات الحرارية بأقلّ كلفة ممكنة، ليتلاءم مع الدخول المتدنية للغالبية العظمى منا نحن المصريين. وبينما البلاد غارقة في معاناتها تلك، تنطلق صرخات شعبية بين حين وآخر عند ارتفاع سلعة ما بشكل غير متوقّع أو فجائي، كما هو الحال بالنسبة للجدل في أسعار الطماطم حاليا، وتفتقد البلاد لأصوات العقل الرسمية التي تدعو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالتوقّف عن سياسة وقف دعم المزارعين، الذين تتقلّص مخصّصات دعمهم عاماً بعد عام. والجدل السابق حول أسعار البصل، ومن قبله البطاطس، ليس ببعيد. هكذا صارت مناقشات غالبية المصريين وهمومهم الأساسية مع الأسف، بينما تتهدّد أمن البلاد ومستقبلها حروبٌ ومشكلات كبرى في كلّ اتجاه. من الجنوب، لا تزال الحرب دائرةً في السودان، وإثيوبيا مستمرّة ببناء سدّها وقاربت على الانتهاء منه. غرباً لا يزال خطر تجدّد الحرب قائماً وبقوة، في ظلّ الصراع على مصرف ليبيا المركزي ومؤسّستها الوطنية للنفط. في الشمال الشرقي لا يزال الصراع العربي الإسرائيلي في واحدة من أقسى حروبه مستمرّة منذ عام.
في هذا السياق، وفي ظلّ تبنّي النظام في مصر سياسةً تقشّفيةً قاسيةً، توقّف أولاً (منذ عدّة سنوات) عن دعم تلقيح المواشي، ومن ثمّ ترك المزارعين ومواشيهم عرضةً للأمراض والأوبئة الموسمية الخطيرة التي لا يمكن مقاومتها بشكل فردي، ولا يمكن أبداً تركها للإمكانات المادّية للمزارعين، ولا لرغباتهم في الحصول على اللقاحات اللازمة، في سياقات تحكمها ثقافة الحسد والخوف منه، وما يتبعها من استعراض الضرر الذي قد يكون خطراً على الصحّة العامة للإنسان والحيوانات معاً. ولا يجد المزارعون الخدمات البيطرية اللازمة من لجان وحملات التلقيح التي كانت تمرّ على القرى والنجوع والكفور بشكل دوري، للوقاية من الأمراض الموسمية، ويتركون لقوى السوق التي حكمت على مصر بهجرة بيطريّيها وتوقّف التعيين بالإدارات البيطرية والإرشاد الزراعي، كما هو حال بقيّة القطاعات منذ صدور قانون الخدمة المدنية تقريباً، أيّ أنّه حتّى من يرغبون بتلقيح مواشيهم على حسابهم الخاص لم يعودوا يجدون تلك الخدمات بسهولة، إذ يتطلّب الأمر نقلاً مكلفاً للماشية للقرى الأمّ، التي لديها وحدات بيطرية، والمزارعون بطبيعة الحال يخشون الحسد إن هم قاموا بنقل تلك المواشي مشياً على الأقدام، أو حتّى تفلّت تلك المواشي وحصول حادث لها، سواء في الطرق الزراعية الرديئة أو على سكك الحديد. ولقد كان لأزمات الأسمدة والأعلاف، بالإضافة للتغيّرات المناخية القاسية وللأزمات الصحيّة غير العادية التي أصابت الحيوانات في السنوات الثلاث الماضية، تأثير كبير. لذا لا عجب أن تخرج التقارير لتشير لانخفاض أعداد رؤوس الماشية للنصف تقريباً في وقت قصير جدّاً.

ما بين أزمات سياسية واقتصادية وبيئية تبقى مصر ومزارعوها وزراعتها في قلب الخطر، الذي يقتضي مراجعةً كبرى للسياسات الاقتصادية والزراعية

وقد أتى الصيف الذي انقضى بأعراض مضاعفة لمرض الحمّى القلاعية، حتّى أنّ كثيرين من الأطباء البيطريين والمزارعين يظنونها عدوى فيروسية غريبة، ولا يعتقدون أنّها المرض الموسمي المعتاد، إذ لم يترك بيتاً إلّا وأصاب مواشي أصحابه، وكانت العدوى بأعراضَ شديدةٍ ومختلفةٍ، فشوهدت حالات وفيات عديدة ومقلقة في غالبية قرى الصعيد. وبالطبع، جزء مهمّ من أسباب هذا الانتشار لتلك الأوبئة هو عدم وجود استعدادات للتعامل معها، لا على المستوى الرسمي ولا الشعبي، فلا توجد أيّ تعليمات أو خدمات رسمية للتعامل مع الحيوانات النافقة، وبالتالي يلقي المُربّون مواشيهم النافقة في الترع والمصارف، ويتجول بعضهم مع البهائم المريضة في القرية كلّها، وهو ما قد يكون خطأً جسيماً يساهم في نشر العدوى من دون قصد. لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد وقع عديد من مزارعي الذرة، التي هي العلف الأساس للماشية، في فخّ نصبته شركات التقاوي، التي باعتهم تقاوي سيئة وغير مقاومة للأمراض. وطوال هذا الصيف يتجوّل مزارعو مصر في حقولهم للقضاء على الديدان والإصابات بالأمراض التي لم يكونوا يسمعون عنها في السابق، ولم تكن أبداً بحاجة إلى هذا الكمّ كلّه من المبيدات الحشرية والفطرية، التي أصبحت مكوّناً أساساً في زراعة الذرة، مع الأسف، بينما لم نكن نسمع عن رشّ المبيدات خارج نطاق الخضروات والفواكه. ولا عجب، فقد غاب المرشدون الزراعيون الذين كانت مهمتهم الأساسية المكافحة الطبيعية للآفات والحشرات والأمراض التي تصيب النباتات، وكانوا يتجوّلون صيفاً وشتاءً بدرّاجاتهم وسط الحقول، وجرى التخلّص من العديد منهم في سبيل التقشّف وتقليل النفقات، التي هي قليلة بالأساس في القطاع الزراعي، لنعود لاحقاً إلى إنفاق مليارات إضافية على شراء المبيدات والأعلاف واللحوم، بسبب تلك السياسة التقشفية الفاشلة.
كما تُرِك المزارعون ضحيّةً لأزمات نقص وارتفاع أسعار الأعلاف والأسمدة الكيماوية، التي بيعت كُبرى مصانعها بحثاً عن أموال لتمويل عجز حكومي لم يساهم فيه المزارعون، ولم يستفيدوا من تلك الديون والقروض التي أُنفِقت على بنية تحتيّة مبالغٍ فيها، تركّزت معظمها في العاصمة ومدن الساحل والمدن الجديدة، لتعود تلك السياسة علينا جميعاً بمعدّلات تضخّم وارتفاعات هائلة في أسعار السلع الغذائية الأساسية.

تتوقّف إسرائيل عمداً عن تصدير الغاز إلى مصر فتواجه البلاد أزمة كُبرى بتوقّف مصانع الأسمدة عن الإنتاج

وتتوالى الأزمات، وتتوازى أحياناً، إذ تتوقّف إسرائيل عمداً عن تصدير الغاز إلى مصر فتواجه البلاد أزمة كُبرى بتوقّف مصانع الأسمدة عن الإنتاج أسابيع، وتحتاج شهوراً لتوفير البدائل. وما بين أزمات سياسية واقتصادية وبيئية تبقى مصر ومزارعوها وزراعتها في قلب الخطر، الذي يقتضي تفكيراً جماعياً في الحلول، ومراجعة كبرى للسياسات الاقتصادية والزراعية، وربّما للنظام الغذائي برمّته في حال القدرة على تحسين الدخول المؤدية إلى تغيرات في النمط الغذائي للمصريين.