مظفر النواب مجهولاً ومظلوماً
تسأل المذيعة في التلفزيون السوري ضيفها في الاستوديو، مظفر النواب، عن سبب عدم زواجه، فيجيب إنه حمايةُ أبناءٍ قد ينجبهم من عسف الطغيان في بلده العراق. كان هذا في مقابلةٍ معه، أظنّها الوحيدة التي استُضيف فيها على شاشة التلفزيون السوري، في عامٍ بعيدٍ من الثمانينيات. ولا تُفتتح هذه المقالة المحبّة للشاعر الكبير حقا، بالعامي وبعض الفصيح، بتلك الواقعة، للتجريح به، وإنما للقول إن الصورة الذائعة عن صاحب الوتريات الليلية تحتاجُ إلى شيء من الواقعية، أي تنزيل الرجل من علياءَ ثوريّةٍ إلى إنسانٍ شاعرٍ وحسب، له سقطاتُه، البائسة مثل تلك على شاشة حافظ الأسد، ومثل تغنّيه بجهيمان العتيبي (مثليْن، وثمّة غيرهما)، كما له من حميد الأوصاف كثير، فهو الزاهد القنوع، النائي عن الأضواء والمهرجانيات، الفقير الغنيّ النفس، الذي لم يسقُط يوما في مديحٍ نفعيٍّ لأي رئيسٍ أو وزيرٍ أو حاكم. وكان في وسعه أن يعيش في ظروفٍ أحسن، سيما في العشرين عاما الماضية، في مواقع محترمة، غير أنه آثر الانسحاب إلى عزلته وصمته، واكتفى بحدودٍ دنيا من العيش الكريم، من دون أن يتزلّف لأحدٍ أو يتملّق شيخا أو رئيسا أو مسؤولا.
تزدحم في حياة الشاعر، بل وفي مماتِه أيضا، مفارقاتٌ حادّة، قد لا يخصُّ كثيرٌ منها ما يتعلق بشخصه وحسب، من قبيل مواساة السفارة الأميركية في بغداد الشعب العراقي في وفاته، وتسميتها له شاعرا بارزا، وهو الذي أقام على يساريةٍ عتيقةٍ ظلّت فيه، وكان مناضلا شيوعيا في شبابه. ومن قبيل إقامته في خريف عمره في الشارقة التي لقي فيها كل اهتمام، وقد أنفق بعضَ شعره في هجاء دول الخليج وحكّامها. غير أن المفارقة الأهم، والأوضح، أن الشاعر الراحل أخيرا عن 88 عاما كان مشهورا ومجهولا في آن، ما يجعله مظلوما لا شك. يختزله قرّاءٌ محبّون له ولشعره، ومخاصمون له أيضا، في بضع قصائد شتّامةٍ، ذاعت في شريطي كاسيت قبل أزيد من أربعة عقود، وسمعها بعض العتاقى في أمسياتٍ ومناسباتٍ في بيروت ودمشق وطرابلس ولندن (وغيرها)، وحفظ كثيرون مقاطع شهيرةً من قصيدتين أو ثلاث له، وتردّدت وصارت كأنها علاماتٌ دالّة عليه، من دون أن يأخذ شعرُه العريض (كل الحديث هنا عنه شاعرا فصيحا) حقّه في القراءة المعتادة، في التعرّف عليه في عمومِه، فمظفر النواب شاعر غزلٍ مُجيد، شاعر حبّ، وأظنّه هنا بالضبط (أو فقط؟) كان شاعرا كبيرا وصانع صورةٍ وعبارةٍ مبتكرة. وأبدا لم يكن شاعرا مهما في قصائده ذات البذاءات الجريئة، والشجاعة التي لا بدّ مقدّرة في زمنها. طُبعت دواوينه (كم عددها؟) ولم توزّع جيدا، لا تلقاها في معارض الكتب إلا نادرا. وقيل إن ثمّة طبعاتٍ مزوّرةً مشوّهة لها. كما أن شعره حُرم من إضاءات درسٍ نقديٍّ عليه، بل حتى من المتابعات الصحافية السيّارة. عدا عن هذا وذاك، لم يُحاوَر مظفر النواب في مقابلاتٍ صحافيةٍ كافية، وذات قيمة، يتحدّث فيها عن تجربته في كتابته قصيدته، عن مصادر ثقافته الشعرية، عن تصوّراته الفنية والجمالية، عن قراءاته، عن.. وها نحن نصادف لذوّاقين ذوي درايةٍ في الشعر والأدب، يكتبون إن مظفر شاعرُ صورة، شاعرٌ سيّابيٌّ في عاميّ شعره. وهذا جديدٌ، لم نقع عليه سابقا في متابعاتٍ تحليليةٍ، مطالعاتٍ نقدية، قراءاتٍ ناقدة، جدّية وجادّة، وما انكتب، في غالبه الأعم، عن شعر مظفر ليس من أيٍّ من هذه كلها.
يزيد من صفة مظفر النواب شاعرا مجهولا الحبْس الذي وضعه الجميع فيه، أنه شاعرٌ ثوري. وهذا صحيحٌ في شطرٍ بعيد من حياته، غير أنه يُظلَم إذا أبقيناه في تصنيفٍ كهذا، وها هم ناقدون له، محقّون على ما أؤكّد هنا، يؤاخذونه على ما كان منتظرا أن يقوله ولم يفعل، أمثلةً: في شأن احتلال العراق، وفي شأن ثوراتٍ قامت ونهضت بها شعوبٌ في السنوات العشر الماضية، وفي شأن جرائم يرتكبها غير نظام عربي، السوري نموذجا. مع التسليم بداهةً بأن مظفّر لم يكن داعيةً سياسيا، ولا ناشطا حزبيا، ولا مفكّرا عقائديا، وإنما صفتُه تلك تجيز انتقادَه (أو محاسبته؟) في هذا المطرح.
خسارةٌ كبرى أن مظفر النواب لم يكتُب (ولم ينشر) مذكراتٍ أو ذكرياتٍ أو يوميات. ولم تتوجّه إليه الصحافة بهذا المطلب، أو ربما هو من استنكف. لو فعل هذا لأفصح عن نفسه، لجالَ في أطوار حياته مراجِعا ومسائلا ومتأمّلا، في ما أحدثته تصاريف الزمن فيه مثلا.. ستكون مفاجأة أكثر من سارّة لو عثر قريبون منه على نصوصٍ بثّ فيها لواعجَ منه، لربما أسعفتنا بمعرفةٍ أوضح به، ربما.