معارك لا يوجد فيها منتصرون
تحوّلت قضية عضو مجلس النواب الأردني، أسامة العجارمة، الذي قرّر المجلس تجميد عضويته، إلى الشغل الشاغل لمواقع التواصل الاجتماعي. وعلى قاعدة شرّ البلية ما يضحك، فإنّ الكلمة العابرة التي قالها العجارمة لزميل له على هامش جلسة مجلس النواب أصبحت الهاشتاغ الأول في الأردن، "#طز في مجلس النواب، قبل أن يتطوّر الأمر إلى اجتماعات وحشود أخذت طابعاً عشائرياً، ليحتل هاشتاغ جديد التويتر الأردني عن العشائر الأردنية!
أختلف مع أغلب ما يطرحه النائب، ومع اللغة التي يصوغ بها خطابه، لكنّ الطريقة التي تُعالج مؤسسات الدولة بها الأمور أخطر وأسوأ بكثير مما وقع فيه النائب نفسه، ولعلنا نكرّر أنفسنا (مثل كلّ مرّة) لو تخيلنا السيناريو الآخر، وهو: ماذا لو جرى تجاهل ما قاله النائب، أو التعامل معه بهدوء وحكمة، وجرى تجاوز الأمر، هل كانت الأمور ستصل إلى الحال الراهنة؛ توتّر، واجتماعات سياسية، وعزف بعضهم على وتر العشائرية؟ ولا أستطيع أن أفهم فعلاً كيف وصلنا إلى هنا، ولماذا تحولت القضية لتأخذ هذه الأبعاد، فتفجّر الهويات الفرعية وكأنّها في مواجهة مع الدولة وسياساتها، وهو تحويل خطير لمجرى القضية، يثير القلق والهواجس لدى نسبة كبيرة من المواطنين.
لنتجاوز تفصيلات القصة، ولنقف عند دلالات ونتائج تستدعي تفكيراً عميقاً جدياً من أصحاب الرأي والعقل في مؤسسات القرار. ولعلّ السؤال الأكثر أهمية اليوم، ونحن نرى التحولات التي تحدث في أوساط المعارضة السياسية، لتنتقل من الإطارين، القانوني والحزبي المعروفين، إلى الشارع، وإلى خطاب آخر، ولغة مختلفة تأخذ طابعاً راديكالياً احتجاجياً عنيفاً. والخلاصة المهمة أنّ تفريغ الملعب السياسي وإضعاف الأحزاب والنقابات، وحتى الشخصيات المعارضة، سيُحدث فراغاً يملأه لاعبون آخرون، منهم نواب وسياسيون وحراكيون يقدمون خطاباً يتجاوز السقوف والحدود، أكثر حدةً في الطرح والسقوف والمواقف.
النتيجة المقلقة الأخرى تتمثّل بأنّ ذلك كلّه يأتي في مناخ مأزوم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وفي وقتٍ يُعَدّ فيه لإطلاق لجنة جديدة لتأطير الإصلاح السياسي وتعديل تشريعاته، ما يعزّز من الأصوات المشكّكة في جدّية الدولة بالمضيّ بهذا الطريق، وبصدقية اللجنة والمخرجات، ويعزّز دعوى التيار الذي يقول: إذا كانت الدولة لم تحتمل خطاب نائب غاضب، فكيف ستقبل غداً بمجلس نواب قوي، يحاسب الحكومات ويسائلها عن الأخطاء، ويعيد الثقة إلى مجلس النواب والحكومة؟!
المفارقة أنّ مجلس النواب الحالي لم يمضِ عليه إلّا أشهر قليلة، وفي هذه المعركة البسيطة خسر أغلب أسلحته، وسقط سقوطاً حرّاً سريعاً. وإذا كان التفكير منذ الآن بانتخابات مبكّرة على قانون انتخاب جديد، فمن باب أَولى ألّا نقدم رسائل تعزز الشكوك، وتعزّز من التيار المشكّك في كلّ شيء، وهو تيارٌ، بالمناسبة، يتماهى جيداً مع حالة احتقان مجتمعي غير مسبوقة، مرتبطة بأزمة الثقة وبالظروف الاقتصادية الصعبة.
أخشى أنّنا نلعب في الوقت الضائع، وسيفقد التيار العقلاني الواقعي في مؤسسات الدولة والمعارضة كلّ ما لديه من حجج وآمال، أمام الحبال المشدودة والرؤوس الحامية من هذا الطرف وذاك. وما ينبغي أن ننتبه له جيداً بحذر شديد، هو تكوين اللجنة المرتقبة (للإصلاح السياسي)، فإذا لم تكن تمتلك الصدقية، وأعضاؤها ورئيسها من طراز إصلاحي مقبول شعبياً، فستُعدَم مخرجات اللجنة قبل أن تبدأ، وستتحوّل هي ذاتها إلى سبب آخر لتأزيم الأوضاع السياسية.
يتطلع الأردنيون إلى أفق سياسي، ما دام الظرف الاقتصادي يحتاج وقتاً أطول، وإلى رجال دولة يدركون حجم الأزمات، ويمتلكون الحكمة والهدوء، ويتلمسون وجع الشارع، ولديهم مهارة حلّ الأزمات، لا تعقيدها وتضخيمها ومراكمتها، فهنالك تحدّيات وأزمات حقيقية وقضايا كبرى داخلياً وخارجياً، تستحق التفكير في إداراتها وابتكار الحلول لها. ولدينا جيل من الشباب قلق من المستقبل، ويريد الاندماج في العمل السياسي والدورة الاقتصادية، يستحق التفكير في توفير بيئة حاضنة آمنة له، لا أن ندمجه في مناخاتٍ سياسيةٍ مأزومةٍ ومقلقة، ومعارك لا يوجد فيها أيّ رابح، الجميع خاسرون!