معذرة لأشرف وإخوته
بعيداً عن الخلفيات السياسية والدبلوماسية للأزمة المندلعة بين المغرب وإسبانيا، والتي بلغت أوجها مع موجة الهجرة الجماعية إلى مدينة سبتة المحتلة، ثمّة ضحايا لا علاقة لهم بالخلافات السياسية والحروب الدبلوماسية بين الدول، إنهم الأطفال، والقاصرون عموماً، ممن تم زجّهم في أتون هذه المعركة، وتركوا لحال سبيلهم، تتقاذفهم أمواج البحر، قبل أن تتقاذفهم أهواء السياسة والسياسيين.
وقد تابعنا، عبر وسائل الإعلام، صور أطفال رضّع محمولين على أذرع آبائهم، وهم يحاولون أن يعبروا بهم سباحة للدخول إلى الأرض التي تحتلها إسبانيا في أقصى شمال المغرب. كما انتشرت عبر العالم صورة غطّاس من الحرس الإسباني وهو يحمل رضيعة، بعدما سقطت من فوق ظهر أمها التي أبحرت بها، شهرين فقط بعدما أنجبتها في عملية قيصرية. ومن بين أكثر القصص إيلاماً تلك التي ظهر فيها الطفل أشرف، يتيم الأبوين، وهو يشقّ عباب البحر وحيداً، تحمل جسَده النحيف قارورات من البلاستيك، صنع منها قارب نجاته. وكانت الصورة الأكثر إيلاماً لكل غيور على وطنه المغرب تلك التي حشر فيها عناصر من الحرس المدني الإسباني عشرات الأطفال القصّر المغاربة داخل مخزن كبير للبضائع، وكان هؤلاء يردّدون، بفرح طفولي وباللغة الإسبانية المتداولة في مدن شمال المغرب، "عاشت إسبانيا"!
قصة اليتيم أشرف، ذي الستة عشر ربيعاً، المنحدر من أحد أفقر الأحياء الشعبية في الدار البيضاء، سوى واحدة من صور عديدة تختزل حجم المأساة
قصص هؤلاء الأطفال كثيرة ومؤلمة. وصل بعضها إلى وسائل الإعلام، من بينهم المراهقون الباحثون عن حياة كريمة، والتلاميذ الذين غادروا فصول الدراسة وركبوا البحر، بحثاً عن غدٍ أفضل، والأطفال الرضّع الذين حملتهم أمهاتهم فوق ظهورهن، وحاولن العبور بهن نحو الضفة الأخرى. وليست قصة اليتيم أشرف، ذي الستة عشر ربيعاً، المنحدر من أحد أفقر الأحياء الشعبية في الدار البيضاء، التي أبكت كثيرين، سوى واحدة من صور عديدة تختزل حجم المأساة، وربما ثمّة صور أكثر إيلاماً، لكنها لم تصل إلى وسائل الإعلام والوسائط الاجتماعية، وظلت طي النسيان، تماماً مثل مصير عشرات من القصّر غير المرافقين الذين اختفوا من دون أن يسأل أحد عن مصيرهم، وغالباً ما يكون هؤلاء عرضةً لشبكات الاتجار بالبشر والتهريب والجريمة المنظّمة.
حسب المصادر الإسبانية، لأنه لا توجد، مع الأسف، أية معطيات عن هذا الموضوع من الجانب المغربي الرسمي، وصل إلى سبتة المحتلة خلال يومين فقط نحو 1500 قاصر ضمن موجة الهجرة الجماعية، بينهم رضّع، وقد أعادت إسبانيا عديدين منهم ممن كانوا مرافقين من بعض أقاربهم، وأحياناً فعلت ذلك في انتهاكٍ للاتفاقيات الدولية والأوروبية لحقوق الطفل التي وقعت عليها حكومتها. ولا يعرف كم عدد الذين بقوا في المدينة المحتلة، أو الذين تم ترحيلهم إلى ملاجئ في شبه الجزيرة الإيبيرية. فيما تحدثت تقارير صحافية عن تعرّض آخرين للعنف وسوء المعاملة داخل الجيب المحتل، بينما ظلوا بدون أكل أو شرب ينامون مشرّدين تحت العراء!
تكبل المغرب اتفاقات ومواثيق دولية عديدة متعلقة بحماية الأطفال التي وقّع عليها، وفي مقدمتها "الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل"
وفيما صمت الجانب المغربي الرسمي والحزبي عن الحديث عن حالة القصّر، ضحايا هذه الموجة الاستثنائية من الهجرة، تشهد إسبانيا التي تؤطّر قوانينها اتفاقيات دولية، وأخرى خاصة بدول الاتحاد الأوروبي، نقاشاً حادّاً بشأن مصير مئات من هؤلاء القصّر الذين دخلوا أراضيها، فبموجب تلك الاتفاقيات، يمنع على الحكومة الإسبانية ترحيل القصّر، غير المرافقين بذويهم، قسراً إلا في حالتين، موافقة القاصر نفسه أو ضمان حمايته في بلده الأصلي. والحال أن أغلب هؤلاء ما كانوا ليركبوا موجة الهجرة، لو توفرت لهم مثل هذه الحماية في بلدهم المغرب. ومعروفٌ عن إسبانيا أن سجلها سيئ، حتى قبل وقوع هذه الأحداث، في معاملة المهاجرين القاصرين، وخصوصاً من هم من أصول مغربية. وثمّة قصص كثيرة عن تعرّض هؤلاء للإهمال وسوء المعاملة، وغياب كل أنواع الحماية الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تخوّلها لهم الاتفاقيات الدولية التي تضع "المصلحة العليا للطفل" فوق كل اعتبار.
ولكن هذا كله لا يعفي الجانب المغربي من المسؤولية، بل إنه المسؤول الأول والأخير عن أبناء بلده، خصوصاً إذا كانوا أطفالاً أو قاصرين، فالمغرب هو الآخر تكبله اتفاقات ومواثيق دولية عديدة متعلقة بحماية الأطفال التي وقّع عليها، وفي مقدمتها "الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل". ويوجد به منذ أكثر من ربع قرن "مرصد وطني لحقوق الطفل"، و"مجلس وطني لحقوق الإنسان"، و"مجلس للجالية المغربية بالخارج"، و"وزارة لحقوق الإنسان"، و"وزارة للتضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأُسْرَة"، وعشرات من الهيئات المدنية شبه الرسمية تتلقى الدعم من المال العام، وهلم جراً من مؤسسات رسمية وغير مدنية، ترفع شعار حماية الطفولة ورعايتها، ثم لم يُسمع صوت أيّ من هذه المؤسسات يدين أو يستنكر تحول مئات الأطفال إلى دروع بشريةٍ في حربٍ دبلوماسية، لا ناقة ولا جمل لهم فيها! كما لم يصدر، حتى كتابة هذه السطور، أي بيان رسمي، أو شبه رسمي، مغربي، عن مصير مئات الأطفال المغاربة الذين شاهدناهم تتقاذفهم أمواج البحر، أو يسوقهم الحرس المدني الإسباني مثل القطعان تحت أشعة الشمس الحارقة، أو يُزجّون داخل مخازن البضائع مثل متاع ألقى به البحر فجأة على شواطئ المدينة التي تحتلها دولتهم منذ أكثر من خمسمائة عام.
موجة الهجرة الجماعية التي شوهدت، أخيراً، مظهر بسيط من مظاهر أزمة الاجتماعية التي تتعمّق يومياً داخل المغرب، وتنذر بالانفجار في كل يوم
ومعلومٌ أيضاً عن المغرب أن سجله سيئ في حماية طفولته، حيث تتحدّث تقارير رسمية مغربية عديدة عن مئات الآلاف من حالات الإهمال والتشرّد والتسول ومغادرة فصول الدراسة مبكراً، والتي تسجّل سنوياً، ويكون ضحاياها أطفالٌ وقصّر. وحتى على مستوى الهجرة تتحدث إحصائياتٌ غير رسمية عن وجود أكثر من عشرين ألف قاصر مغربي مشرّدين في أوروبا، أغلبهم في فرنسا وإسبانيا، ترفض الحكومة المغربية الاعتراف بهم، وبالتالي تسلمهم لإعادتهم إلى بلدهم!
حماية الأطفال ورعايتهم، وخصوصاً المحرومين من الأسرة، في إسبانيا، كما في المغرب وفي كل مكان في العالم، تقعان على عاتق الدولة. وتشمل الحماية والرعاية تلبية جميع احتياجاتهم اليومية ودراستهم ورفاهيتهم، وصون سلامتهم الجسدية والنفسية والاجتماعية، وكل الحقوق ذات الصلة بهم. والصور التي رافقت هذه الأزمة ما بين المغرب وإسبانيا تدين البلدين معاً، لكن الإدانة تكون أشدّ عندما يتعلق الأمر بالمغرب، لأنه بلد الأصل والمنشأ. وما رأيناه طافياً على البحر سوى الرأس الظاهر من جبل الجليد من مأساةٍ عامةٍ تعيشها ملايين الأسر المغربية التي فقدت الأمل في بلادها، بعد أن حرمت من أبسط سبل العيش الكريم. وليست موجة الهجرة الجماعية التي شوهدت، أخيراً، سوى مظهر بسيط من مظاهر أزمة الاجتماعية التي تتعمق يومياً داخل المغرب، وتنذر بالانفجار في كل يوم.