معركة استعادة الثقة بعد الانقلاب على بوريس جونسون
على عكسِ انتخاب حزب المحافظين البريطاني زعيمه بعد استقالة رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، يبدو اختيارُ خليفة بوريس جونسون في الزعامة معقداً ومبهم النتائج.
بعد استقالة مَاي في يوليو/ تموز عام 2019، بدا المشهد أكثرَ سهولة. لم يكن أيُّ من منافسي وزير الخارجية المستقيل وقتئذ، جونسون، منافسا حقيقيا. لذا اختير، ثم دعا إلى انتخاباتٍ مبكّرة، وفاز حزبُه. تلك الانتخابات العامة من العلامات الفارقة في العقدين البريطانيين الأخيرين بسحقِ المحافظين العمالَ. حينها كان العاملُ الحاسم في انتصار الجناح اليميني الخشيةَ من اليسار بقيادة جيرمي كوربن. الرجل، لأسباب عديدة، تسبّب بتدنّي شعبية حزبه. واجه حربا شرسة من الإعلام، واتهم بمعاداة السامية، وأدّت مواقفُه المبهمة تجاه خروج لندن من الاتحاد الأوروبي إلى اتهامه بالازدواجية وعدم الوضوح. في النهاية، سبب ذعرا من تحوّل ثوري في بلدٍ يُعد، خلال أربعة قرون، أبعدَ البلدان الغربية عن التغييرات الراديكالية. لم يكن بإمكان ما يعرف بالجدار الأحمر، وهي المناطق العمالية التقليدية، أن يحافظ على صموده، استطاع المحافظون اختراقه بقوة.
لكنّ المشهدَ البريطاني، في الوقت الراهن، مختلف جذريا. البلاد تمر بوضع اقتصادي مأزوم، تظهر أهمُ انعكاساتِه في التضخم غير المسيطر عليه. هي أزمةٌ تنتمي إلى عوامل تضافرت خلال ثلاثة أعوام؛ هناك استحقاقُ الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأيضا ما فرضته الجائحةُ عالميا، وكانت المملكة المتحدة من أكثر البلدان إصابةً بها. وبالطبع، الغزو الروسي لأوكرانيا عنصرٌ حاسم في المملكة المتحدة كبقية بلدان القارّة الأوروبية، مع امتياز أن بريطانيا لا تعتمد بدرجة رئيسة على غازبروم.
على مدى الأشهر التسعة الماضية، قوّضت المصداقيةَ فضائحُ حفلات شارك فيها رئيس الوزراء رغم قرار الإغلاق الذي أصدره بنفسه بسبب الجائحة. جونسون اتُهم بالكذب أكثر من مرّة، ما تسبب في حالة انعدام الثقة. وانعكس الأمر على حزب المحافظين بعد أن خسر مقعدين في انتخاباتٍ تعويضيةٍ، ما دقّ ناقوس الخطر لدى الكيان السياسي الأكثر قوة راهنا وتاريخيا. فالأيديولوجيا لم تعد اللاعب الأول في توجّهات الناخب، لأن معيشة أغلب الناس اليومية باتت على المحكّ، وأدرك المحافظون ذلك. لذا ضغطوا لاستقالة جونسون، وهم يواجهون الآن مشكلة كبيرة، كيفية استعادة ثقة الشارع، فمهمة رئيس الوزراء الجديد ليست فقط استمرارَ إدارة البلاد أو إدارةِ بريكست، كما حصل مع جونسون، بل كيفيةُ إعادة بناء ما تهدّم في ثلاثة أعوام. وهذه مهمة صعبة، لأن الظروف الراهنة ليست داخلية فقط، بل لها أيضا أسباب دولية.
فرص إجراء انتخابات مبكّرة تبدو قليلة إن لم تكن معدومة راهنا. حزب المحافظين إنما أطاح جونسون خوفا من خيار تبكير الاستحقاق الانتخابي
إلى جانب هذا، تتنامى خشيةٌ من أن يكون التقهقرُ عاملا حاسما في رفع أسهم حزب العمال. لهذا، من السهل أن نجدَ المرشّحة لخلافة جونسون، بَني موردونت، ترى أن ظهور تحالف يساري اشتراكي لإدارة البلاد كارثة. نائب رئيس الوزراء، دومنيك راب، في إعلان دعمِه ترشيحَ وزير المالية السابق ريشي سوناك، برّر ذلك بعدد من النقاط، منها أنه الوحيد القادر على إغلاق الطريق أمام العمّال. بمعنى آخر، هو الضمانة للنجاح في مواجهة صعود حزب العمال الذي سيستفيد من تراجع شعبية جناح اليمين.
قد تفيد هذه الظروف اليسار بطريقة حاسمة. لهذا، حاول حزب العمال استعجال انهيار خصمِه بطرح مقترح سحب الثقة العاجلة من رئيس الحكومة، وعدم الانتظار إلى سبتمبر/ أيلول المقبل. كان يمكن أن تضمن هذه الحركة انتخابات مبكرة، يستفيد فيها اليسار من أسوأ لحظات اليمين. رغم أن العمّال أيضا لا يبدو أنهم يمتلكون مشروعا واضحا لمواجهة أسبابِ الأزمة الاقتصادية وغيابِ الثقة. خصوصا أن زعيمَ الحزب، كير ستارمَر، لم يبدُ عليه تميزٌ صريح، أو قدرات واضحة على قيادة العبور بالبلاد إلى مرحلةٍ أكثر هدوءا واستقرارا اقتصاديا، فضلا عن أن هناك أزمةَ علاقة بين القاعدة الحزبية والقيادة ظهرت تدريجيا بعد فترة توني بلير.
ثم إن فرصَ إجراء انتخابات مبكّرة تبدو قليلة إن لم تكن معدومة راهنا. حزب المحافظين إنما أطاح جونسون خوفا من خيار تبكير الاستحقاق الانتخابي. لهذا سيعمل على إنقاذ نفسه قبل الاقتراع المقبل، المفترض إجراؤه نهاية عام 2024. وهو أمر سيكون رهنا باختياره الراهن للساكن القادم في المنزل رقم 10 بداونينغ ستريت. وبين المرشّحين الخمسة الباقين في المنافسة، هناك كيمي بادينوخ، التي تمثل ثورة في الوجوه البديلة، كونها مرشّحة جديدة للغاية على الواجهة، لكن حظوظها تبدو محدودة، لأن هذا التغيير لا مؤشّر على وجوده في ذهنية أعضاء حزب المحافظين (عددهم 175 ألفا). لذا هناك ثلاثة أسماء تبدو حظوظها في المقدمة.
السياسة الخارجية لن تتغير مع أي رئيس وزراء جديد من الأسماء المطروحة
يدفع جناح جونسون في المحافظين نحو وزيرة الخارجية ليز تراس. وعلى الرغم من أنها تحدثت أكثر من مرة في الأيام الماضية عن سياسات داخلية، مثل تقليل الضرائب، يبقى محلّ اهتمام تراس المركزي هو السياسة الخارجية. وهي بذلك تشبه بوريس نفسه، فالأخير حين التحقيق معه من لجنة رؤساء اللجان البرلمانية قبيل استقالته، كان واضحا أنه لم يكن يمتلك إجاباتٍ وافية بشأن الأخطاء الداخلية، بل ظهر مرتبكا عند كل سؤال. ولكن حين سُئل عن الأزمة الأوكرانية، انطلق بعيدا عن خوفه، وشمّر عن نفسه بطريقته الاستعراضية ليجيب، وكأنه يقول إن وجوده مهم لمقارعة بوتين. هذا المسار سيكون نفسَه مع وزيرة الخارجية التي لم تبدُ عليها ملامح قيادة البلاد بقدر ما كانت موظفة جيّدة خلال الفترة القصيرة التي شغلت فيها المنصب. لكن هذا المسار، على الرغم من أهميته في السياسة البريطانية، لا يبدو الحاسمَ في البحث عن البديل، خصوصا أن السياسة الخارجية لن تتغير مع أي رئيس وزراء جديد من الأسماء المطروحة.
وبعكس تراس، تقف مرشحة أخرى لم تحظ برضا جونسون، وصوّتت ضده في انتخابات زعيم المحافظين عام 2019. هي بَني موردونت، وزيرة الدولة للسياسات التجارية، وكانت أولَ سيدة تشغل منصب وزير الدفاع البريطاني في آخر شهر ونصف من عمر حكومة رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي. موردونت طرحت نفسها بمجرد إعلان جونسون الاستقالة، لتصبح بذلك اسما غير تقليدي نسبيا في وقائع الترشيح يتقدم بسرعة في ظل حصولها على المركز الأول أو الثاني وفقا للاستطلاعات. من الصعب تصنيف موردونت، لأن المؤشّرات المتوفرة قليلة. هناك من يصنفها بأنها معتدلة، في المقابل يقال باستمرار أن مواقفها منذ بداية عضويتها في الحزب لم تختلف عن السياق التقليدي للمحافظين، ما يجعل تصنيفها في وسط اليمين أمرا مقبولا، غير أن أربعة أحداث أو مواقف سابقة قد تدعم إدراجَها ضمن قائمة التشدد. فهي أولا كانت بين الأكثر دفاعا عن بريكست. وهي أيضا، مع دعمها حقّ التحوّل الجنسي، صرّحت أكثر من مرّة أن المرأة المتحولة إلى رجل تبقى امرأةً بيولوجيا، ما تسبب بانتقادات داخل بعض أوساط المدافعين عن المتحولين. المؤشر الثالث هو دعمها اليمين في اسكتلندا باعتباره الخيار الموثوق ضد الرغبات الانفصالية للحزب الوطني الاسكتلندي. وأخيرا، أدّى دفاعها عن المعالجة المثلية، المعروفة بـ"الهوميوباثي" المعتمدة علاجا لدى القطاع الصحي البريطاني، إلى انتقادات حادة في الأوساط السياسية والطبية. وبمتابعة المناظرات الانتخابية مؤخرا والتطورات الموازية، بدا أن موردونت تمثل واجهة لتيار داخل المحافظين هو المحرّك لخطابها السياسي وحضورِها السريع، وهذا ما أدى إلى دفعها بشدة إلى الواجهة، لتُسجل نجاحا في الجولتين الأولى والثانية من التصويت داخل المحافظين بحصولها على المركز الثاني.
سياسة ريشي سوناك الاقتصادية في الفترة الأولى من زمن الوباء حققت نجاحا
صاحب المركز الأول في الجولتين هو الشخص المشار إليه باعتباره ذا الحظ الأوفر، في حال عدم حصول مفاجآت. سياسة ريشي سوناك الاقتصادية في الفترة الأولى من زمن الوباء حققت نجاحا، خصوصا أنه دفع باتجاه تعويض المشاريع الاقتصادية الصغيرة المتضرّرة بسبب الإغلاق، ونظام التخصيص المالي للعاملين في القطاع الخاص للحيلولة دون طردهم من وظائفهم بسبب توقف الأعمال. فهو على عكس فضائح الحفلات في تلك المرحلة، كان يشق طريقه بعناية نحو اللحظة الراهنة، لدرجة اتهامه بالوقوف خلف تسرب الفيديوهات المتعلقة بالحفلات. كما أنه يتمتع بدعم عدد من الشخصيات الوزارية. فضلا عن ذلك، يراه بعضهم خيارا غير تقليدي بفعل برنامجه المركز بشدة على السياسة الداخلية والأزمة المالية. ورغم الشكوك التي تُطرح على خلفية انتمائه لعائلة ثرية وإمكانية فهمه للطبقات المتوسطة والفقيرة، وأيضا على خلفية قضية الالتفاف على الضرائب التي اتهمت بها زوجته قبل نحو ستة أشهر، يبقى خيار حزب المحافظين محدودا لعدم وجود قيادات تقليدية قادرة على إنقاذ الحزب، فاللجوء إليه، باعتباره الخيار الممزوج بوجهة غير تقليدية من جانب، وبأنه أحد وجوه الحكومة خلال الأعوام الماضية من جانب آخر، هو خيار آمن وغير مغامر، بعكس بَني موردونت غير المعروفة بعد وغير المختبرة إلا فترات قصيرة جدا.