معركة "معاوية" التي بدأت مبكّرا
عندما أصدر عبّاس العقاد كتابه "معاوية بن أبي سفيان" في 1956، وأظهر فيه مَلكات القيادة والحكم لدى أول الخلفاء الأمويين، لم يطرأ أي أخذٍ وردٍّ عن فتنةٍ طائفيةٍ قد يُحدِثها الكتاب، ولا زاد سنّةٌ وشيعةٌ وعادوا في أمره. والحال نفسُه عندما أصدر طه حسين كتابه، المتفرّد حقّا، "الفتنة الكبرى"، بجزأيه "عثمان" (1947) و"عليّ وبنوه" (1953)، لم يستقبلهما أحدٌ بعيون الخائف على الأمة من غضبِ سنّةٍ أو سُخط شيعةٍ على ما بسطه العميد من تلك المرحلة شديدة الحساسية في التاريخ الإسلامي بعد مقتل الخليفة عثمان واعتراض معاوية على تولّي عليّ الخلافة قبل كشف القتلة والقصاص منهم. ولمّا أصدر هشام جعيّط في 1992 مؤلّفه الحاذق "الفتنة ... جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر"، وقدّم قراءةً لا تأخُذ بالمسلّمات التقليدية المتوارثة، بشأن الذي جرى في خلافتيْ عثمان وعليّ، لم نُصادف احتفاءً من أهل هذه الطائفة بالكتاب صدورا عن مذهبيّتهم، ولا تعريضا به من طائفةٍ أخرى صدورا عن "أغراضٍ" افترضوها فيه.
في الوُسع أن يعدّد واحدُنا شواهد أخرى مماثلة، تُغاير ما يشتعل في بعض الصحافة العربية وملاعب "السوشيال ميديا"، منذ أذاعت "MBC" أنها ستعرِض في شهر رمضان المقبل من إنتاجها مسلسل "معاوية" (يجري تصويره حاليا في تونس). كان هذا النبأ كافيا لأن يجد كثيرون أن "المكتوب يُقرأ من عُنوانِه"، فيحسموا أن المجموعة التلفزية السعودية لا تُقدِم على إنجاز عملٍ دراميٍّ مثل هذا، وبكلفةٍ شاع إنها مائة مليون دولار (وهذا مستحيل)، إلا لغرضٍ في نفس يعقوب، وإنها تريد تقديم هذه الشخصية المركّبة في التاريخ الإسلامي بمظهرٍ شديد الإيجابية، ومحنّكةٍ وقيادية، على ما هي بعض صورته عند عامّة السنة، فيما هو مبغوضٌ عند المسلمين الشيعة، ما يعني، بداهةً، أن إنجاز المسلسل يندرج في مسار تنازعٍ مذهبيٍّ ظاهرٍ في غير بلدٍ عربيٍّ وإسلامي، وفي إطار حربٍ إعلاميةٍ (وثقافيةٍ؟) بين السعودية وإيران. ولئن يحسُن أن يرمي واحدُنا كل هذا الكلام في البئر، لأن من الحكمة والرّشد أن ننتظر المسلسل على الشاشة، ليكون لكل حادثٍ حديث، ثم يصيرُ الحكم على مضامين هذا العمل، الدرامي من قبلُ ومن بعد، ومُرسلاتِه، ومفرداته الفنية، وعلى السيناريو والإخراج وأداء الممثلين وطواقمه، مبنيّا على مشاهدته، لا على افتراضاتٍ ومُسبقات، فإن هذا القول الوجيه لا يلغي أن ثمّة ما "يفسّر" مساحات الارتياب المهولة بشأن المسلسل، وقد تزيَّد كثيرون في الأثناء إلى نعت شخص معاوية بالشنائع. ومن هذا التفسير أننا لسنا في زمن طه حسين والعقّاد اللذين كتبا عن معاوية وعلي وعثمان بحرّيةٍ في التفكير وإعمال العقل وفحص التاريخ. وإنما نحن في زمنٍ تسمّي فيه فضائيةٌ عراقيةٌ نفسها "الشعائر" (!)، تردّ على "معاوية" و"MBC" بالإعلان عن فيلمٍ ستُنتجه يحتفي بقاتل الخليفة عمر "أبو لؤلؤة ...". في زمنٍ يهنئ فيه متحدّث إسرائيلي في قناة تلفزيونيةٍ عبريةٍ السعودية على إنتاجها "معاوية". في زمنٍ يبلغ حماسٌ "سنّيٌّ" (!) بين ظهرانينا الدعوة إلى ترجمة المسلسل إلى الفارسية. وفي التفسير نفسِه أن الجهة منتجة المسلسل ليس موصوفةً بفائض النزاهة والموضوعية في خياراتها الإنتاجية، وفي الذي تعرضه لمشاهديها، وحروبُها ضد المسلسلات التركية بعد صحبةٍ ثم صلحُهما أخيرا قرائنُ على ما ندّعيه عنها. كما أن الصحافي خالد صلاح الذي أُعلِن أنه كاتب سيناريو "معاوية" اسمٌ لا يبعث على الاطمئنان إلى جدارة وأهلية فيه لإنجاز عملٍ دراميّ تاريخيٍّ عن هذه الشخصية الإشكالية (وغيرها).
مبكّرا بدأت معركة مسلسل "معاوية"، فقد طلبت الحكومة العراقية من "MBC العراق" عدم بثّه، فصدعت الأخيرة. وفيما رفض مقتدى الصدر إنتاج فيلم "أبو لؤلؤة" واستنكر إنتاج "معاوية"، ما "قصّر" في الحطّ من الخليفة الأموي واتهامه بما فيه وبما ليس فيه.
...، عندما شاهدنا ثلاثية وليد سيف وحاتم علي "صقر قريش" و"ربيع قرطبة" و"ملوك الطوائف"، أفزعتْنا مقادير القتل المرعبة التي أعملها المسلمون في بعضِهم بعضا، وأرطال الدسائس والمؤامرات بين أهل السلطة منهم، وأخافتنا الفظائع التي ارتكبها العباسيون بالأمويين، وأذهلنا تفشّي ثقافة الثأر والقبلية والتغلّب في دولٍ إسلاميةٍ قامت وانقضت، عندما شاهدنا هذا كلّه (وغيرَه)، لم يقُل أيٌّ منا إن ثمّة أغراضا لدى سيف وحاتم ومنتجي هذه الأعمال الفريدة، غير أننا قبل أن نرى "معاوية" نتحسّب ونرتاب من صانعيه .. ومن خصومِهم أيضا.