معن زيادة والمشروع التحديثي النهضوي
أكّد معن زيادة (1938 - 1997)؛ رحمة الله عليه، في كتابه "معالم على طريق تحديث الفكر العربي" (سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو 1987) أن معركة العرب مع التخلف من أجل التقدّم لا تزال على أشدها، وستبقى كذلك فترة طويلة، وهي قضية متداخلة مع عدة قضايا أخرى، مثل قضية الاستقلال والتحرّر والعدالة والوحدة، مشيراً إلى أن الضغط لإجهاض جهود العرب التحديثية ما زال مستمراً، ويواجه العرب معارك عديدة تستهدف طاقاتهم وتربك جهودهم وتعرقل مسيرتهم. وقد رأى المفكر القومي أستاذ الفلسفة اللبناني، أن الفكر العربي مرّ بثلاث مراحل: الأولى، مرحلة التأسيس والتأصيل؛ وقد امتدّت على مدى القرن التاسع عشر كله تقريباً، ورغم فشل مشروع النهوض العربي لتدخل الاستعمار مباشرةً، ولعوامل داخلية أيضاً، فقد شهدت هذه المرحلة إرساء الفكر العربي الحديث على قواعد ثابتة، ومهّدت لمرحلة ظهور الفكر القومي. الثانية، تتداخل مع المرحلة الأولى، وخصوصاً خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وشغلت ما يقرب من سبعين عاماً من القرن العشرين، وفيها انطلق الفكر العربي وصاغ مشروعاً توافرت فيه كل مقومات المشروع النهضوي الحديث، كما توافرت له فرص وقوى وإمكانات عديدة. ورغم بشائر نجاح المشروع، إلا أنه فشل أيضاً، بسبب الضغوط الخارجية والثغرات التنظيمية والسياسية. وبدأت المرحلة الثالثة منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، ووصفها الكاتب بأنها مرحلة انحسار يسودها التخبّط بين مشاريع تحديثية وطنية ـ قُطرية محدودة الأفق والنتائج، وهيمنة أيديولوجيات معادية للتحديث عموماً، وغير قادرة على استيعاب أهميته وضرورته. وركز الكتاب الذي بين أيدينا على المرحلة الأولى فقط.
وقد طرح معن زيادة الذي ترأس تحرير مجلة الفكر العربي المهمة عدة موضوعات، أبرزها "محاولات في صياغة المشروع الحديث"، مبيّناً ما نتج من جهود محمد علي في تحديث الجيش من تحديث الدولة؛ حيث ترتب على جهوده تلك توفير البنى أو الأجهزة الأساسية اللازمة، التي لا غنى عنها في عملية التحديث، وهي الأجهزة التي بقيت بعد دخول الاستعمار إلى مصر. وقد بيّن الكاتب أن تجربة محمد علي، رغم أنها افتقدت الاهتمام بالجماهير، إلا أن روّاد الحضارة ورموزها بقوا وبقيت إنجازاتهم وإسهاماتهم، وخصّ بالذكر والتركيز رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي.
وقد استعرض الكاتب، صاحب الهمّ الذي رافقه منذ كان طالباً في المدرسة المتوسطية حتى وفاته، معالم المشروع الفكري للرائدين واهتماماتهما الفكرية والعملية وتأثيرهما في مشروع النهوض العربي؛ حيث أشار إلى أن الطهطاوي يرى للتقدّم وجهين أو أصلين معنوياً ومادياً، فالمادي هو المنافع العمومية كالزراعة والتجارة والصناعة، وهو لازم للعمران. أما المعنوي، فهو التمدّن في الأخلاق والعوائد والآداب. وبهذا القسم قوام الملّة المتمدّنة، وكل منهما يتمم الآخر، فلا يكفي أن تكون أمة متقدّمة في أصل من دون الآخر.
الضغط لإجهاض جهود العرب التحديثية ما زال مستمراً، ويواجه العرب معارك عديدة تستهدف طاقاتهم وتربك جهودهم وتعرقل مسيرتهم
كذلك اهتم بالمشروع الفكري والسياسي لخير الدين التونسي، وكان معن هو مَن حقّق إحدى نسخ "كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، واصفًا إياه بأنه من أهم الكتب التاريخية، مؤكداً أن الكتاب سجل إجمالي لما يمكن تسميته أدقّ تقرير قدّمه مفكر مسلم عن تقدّم المدنية الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انطلاقاً من إيمانه بضرورة الأخذ بها، مؤكّداً أن كلاً من الطهطاوي والتونسي وضعا معالم مشروع نهضوي، وقد جاءت منطلقات مشروعيهما متقاربة؛ حيث ترك عصر النهضة الأوروبية بصماته على رؤية الرجلين إلى العالم والحياة، وكل من جاء بعدهما تأثر بهما وقطف ثمار جهودهما، وأضاف إليها، سواء أحمد فارس الشدياق، أو جمال الدين الأفغاني، أو محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي. وضمن هذا السياق، مدّ خرائطه لتشمل هؤلاء المفكرين، ضمن إشارات عابرة.
يعتبر زيادة الذي ترأس تحرير "الموسوعة الفلسفية العربية"، وأصدر منها أربعة أجزاء، أن الرجلين قد صاغا مشروعاً نهضوياً متكاملاً، وأن من عداهما من روّاد الإصلاح والتجديد قد أضافوا إلى هذا المشروع وأسهموا فيه، وقد تلخّصت محاولات الرجلين في وضع معالم مركّب ثقافي جديد يجمع بين الثقافتين العربية ـ الإسلامية، والأوروبية ـ الحديثة في كلٍّ موحد، ويخلص إلى أنه لا يمكن صياغة مشروع تحديثي نهضوي، من دون أخذ عناصر من الثقافة القومية واعتمادها أساساً يقوم عليها البناء الثقافي والفكري الجديد، ومن دون أن يؤدّي ذلك إلى فقدان الشخصية القومية.
ولا يسع كاتب هذه السطور إلا أن يقول إن فكرة التحديث قد ملأت جوانح هؤلاء الذين تبنّوا ذلك المشروع التحديثي في الإجابة عن سؤال النهوض عند بعض المفكرين، حتى إنهم لم يقرأوا الشرق إلا من خلال مفردات الغرب وحداثته. وذلك يعبّر عن مفارقة جوهرية، تلك التي لم توفر عقلية نقدية للحداثة، كما توافر عندها فائض ممارسة نقدية واسعة لكل ما يتعلق بأنظمةٍ معرفيةٍ في الشرق، وما ارتبط به من مصادر شكّلت مرجعية له، ومن ثم كانت فصول كتابه معالم تحديث الفكر العربي الوسيطة ما بين مقدّمة معن زيادة وفصله الأخير مجرّد مسوّغات لحتمية فكرة التحديث، مثل "المجتمع الحديث والعقل الحديث"، و"مفهوم الثقافة ماهيتها وتطوّرها"، وكذلك أفاض في ما أسماه "مركب ثقافي جديد"، وتحت عنوان "الخروج من بحر الظلمات"، تناول محاولات محمد علي ومشروعه التحديثي.
التوجه التحديثي صنّف خرائط الفكر العربي ضمن مساحات مشروعات التغيير في النهوض والإصلاح
وقد أشار الكاتب السعودي، فؤاد إبراهيم، في مقالته الضافية "إشكالية الإطار المرجعي في الفكر العربي المعاصر: قراءة نقدية" (مجلة الكلمة، ربيع 1995)، إلى أن النهضة العربية لم تأتِ من الطريق الصحيح، بل حاولت أن تتمثل تجربة الغرب في النهضة، فوقع جيل النهضة في إسار التبعية الشاملة، ولا بد، للخروج من إسار التبعية، من ممارسة عملية تفكيك مضادّة، يبني فيها الفكر العربي المعاصر مرجعه الفكري الخاص، وهويته الخاصة، بدلاً من المراوحة في الثنائية العقيمة: الأصالة والمعاصرة، التراث والتحديث، فوعي النهضة الشاملة يبدأ من وعي الذات ومن وعي الهوية المستقلة.. مؤكّداً أن الميل الدائم والمتفاعل نحو النقل كانت له خطورته البالغة على الهوية، فبينما كان الحديث في بداية عصر النهضة يدور حول ما يجب أن ننقله من الوافد، أصبح حديث الجيل اللاحق يدور (ومن موقع فكر الوافد) ما يجب أن ننقله من التراث، كما يقول طارق البشري، معلناً التماهي في المركز الأوروبي الذي يدفع جيل النهضة إلى القول إن الميل إلى الحداثة لا يمكن مقاومته، وليس هناك أي إمكانية أخرى ملموسة للحديث عن طريق جديدة أو عن حضارة جديدة.
لكن من الأهمية بمكان أن يُؤكَّد هنا أن هذا التوجّه التحديثي قد صنّف خرائط الفكر العربي ضمن مساحات مشروعات التغيير في النهوض والإصلاح؛ قد جعل من توجهات فكرية أخرى لا تعتمد المرجعية ذاتها من معوقات هذا المشروع التحديثي، وبات يشكّل مع هذا التماهي مع الغرب، ليقرن بين معالم التحديث وعمليات التغريب؛ إنها معضلة ظلت تلازم أزمة الفكر العربي وتسكنه.