مفاهيم مختزلة واقترابات موهومة في النهوض والتغيير
من القضايا اللافتة للنظر أن بعض مسائل المنهاجية التي ترتبط بعالم المفاهيم الذي يتعلق بمجالات متنوعة في علم النفس السياسي والاجتماعي في محصلتها تبدو كرد فعل آني ووقتي لواقعٍ حادث، ويعد مفهوم الشخصية القومية أو الشخصية العربية والفهم المختزل لمداخل الطابع القومي والعقل العربي تكوينًا وبنية؛ أوصافًا وسماتٍ، أبلغ تمثيل لهذه المقولات، ذلك أن معظم التحليلات التي صدرت تتبنّى تفسيرًا لواقع عربي من خلال خصائص الشخصية العربية، سواء تضمنتها كتابات غربية أو عربية، قد استندت، في جوهرها، إلى رؤى مسبقة تصم الإنسان العربي بمجموعة من الصفات السلبية، مرجعها في ذلك آفاق الانحطاط الراهن للواقع العربي وشخصيته المنهزمة وواقع الأزمة. وقد تشير نظرة متأنية إلى هذه الدراسات وما حملته من تعميمات إلى أن كثيرًا منها جاء ضمن ملابسات الهزائم العربية المستمرّة خصوصا في مواجهة إسرائيل، كما أن بعضها جاء في إطار الثورة على التخلف الاجتماعي والفكري.
والفارق بين هذه الدراسات العربية وتلك غير العربية في هذا المجال، مع تبادلهما النظريات والتحليلات، أن معظم الدراسات العربية تنطلق من تشخيص الموجود والارتداد به إلى مسبّباته في التكوين التاريخي. أما الدراسات الغربية والإسرائيلية فتأتي ضمن محاولات هدم العربي من الداخل وتكريس ذاتية العجز القُطري في تكوينه. ومن ناحية أخرى لم تستوعب معظم هذه الدراسات التاريخ العربي والإسلامي استيعابًا صحيحًا، فهي، من جانب، تغافلت عن الجهد الحضاري الذي بذل في المراحل السابقة، ولم تُعطه وزنه التاريخي الحقيقي، ثم تغافلت أيضًا عن الإطار التاريخي لذلك الجهد والكيفية التي تطوّر ضمنها ... وتستند كل هذه النظريات في تحليلها التاريخ العربي الإسلامي إلى بداية خاطئة، فهي في محاسبتها العربي المسلم على عدم التواصل الحضاري بالطريقة التي واصلت بها أوروبا مثلًا مع توفر الإمكانات لذلك .. لم تفهم، منذ البدء، علاقة العربي بالعوامل الدافعة والمحرّكة تكوينه تاريخيًا، كما أنها تهمل كيف اقتحم العربي المسلم المجال الحضاري العالمي، بأقصى ما أعطته مرحلة التحوّل والنهوض والتغيير في ربع قرن من مزايا سلوكية وحضارية جديدة.
من الأزمات ما يكون بنيويا، ولكن تعبير الأزمة في عمومه غالبًا ما يشير إلى حالة مؤقتة يمكن الانتصار عليها أو مداواة عللها
غاية القول أن هذه الدراسات التي حاولت تفسير التخلف بتمثل العوامل السلبية في تكوينها العربي ومقارنتها بإيجابيات شعوب أخرى متقدّمة أو تقدّمت بعد تخلف، ثم انطلقت من تبيّن أسباب الانحدار الخاصة بالإنسان العربي عبر تحليلها ومرافقتها أزماته المختلفة لم تعمد قط إلى مقارنة ذلك، بتبيّن أسباب (وكوامن) صعود الإنسان العربي نفسه، أي قبل أن يبدأ في التراجع والانحدار، وذلك كشرط علمي لفهم التجربة كاملة في إطار وحدتها العضوية والتاريخية وتحديد "جدليتها". وبالتالي، تفهم آفاقها التحويلية. لذلك لم تدرج هذه الدراسات تجربة الصعود العربي في مقابل تجربة الانحدار ضمن معادلاتها في محاولات "بعث" الشخصية العربية، فانتهت بالضرورة، ونتيجة هذا الفراغ، إلى طرح بدائل عامة، هي من جملة ما يطرح على العموم في نطاق المجتمعات المتخلفة (العالم الثالث)، ومن دون أن يكون لماضي هذه الأمة الذي يؤثر في بناء حاضرها أي خصوصية تميز أوضاعها التاريخية ... على ما سواه. وإنه ليتحتّم منهجيًا وعلميًا على أي منظّر لحركة التاريخ في سبيل الوصول إلى منطلقات التحرّك التاريخي للشعوب أن يحيط بحركة الأمة ضمن وحدتها العضوية التاريخية، إذ لا يمكن بحث الانحدار السريع من دون ربطه بذلك الصعود السريع جدًا.
وجدت هذه الرؤية السلبية للشخصية العربية أو المسلمة سندها في مقولاتٍ أنثربولوجية حاولت تعميمها على الدول المتخلفة، وكذلك مقولات استشراقية كانت تهدف إلى الدسّ والتشويه عليها ولها، خصوصا في علاقاتها بالغرب، سواء كان هذا الأمر تاريخيًا أو حاليًا، ثم برزت التنمية السياسية لتتبنّى تلك المقولات، بصورة أكثر تحيزًا، إلا أنها تميّزت بطبيعة أطروحاتها حول قضايا معاصرة للواقع، وما اتبعته من مداخل منهجية متجدّدة في لغتها. وذلك كله في ظل تبنّيها اتجاها انتشاريا ذاع في الرؤية الحداثية، ليزكّي نموذجه الغربي على كل المستويات فكريًا ونظمًا وحركة.
وتبدو رؤية السنن النفسية والاجتماعية والتاريخية (الشرطية) قادرةً على استيعاب المعاني السابقة في نقد مفهوم الشخصية العربية بصفاتها السلبية التي يحاول بعضهم ربطها خطأ بقاعدتي الحتمية والتلازم، إذ تنظر السنن الشرطية إلى التفاعل الإنساني مع السنن الحاكمة بشرطيتها ومنهجيتها من دون الانزلاق إلى التفسير الذي يُضفى على الشخصية طبيعة وصفات سلبية تحكّمية، أما مدخل "عقلية الوهن" الذي قمنا عليه في دراسةٍ مستقلةٍ من قبل، فإنه لا يقع في هذا الاختزال، بل إنه يمثل، مفهومًا واقترابًا قادرًا بالتساند مع منهج السنن النفسية والاجتماعية والتاريخية على تقديم تعميماتٍ أدقّ ونتائج أعمق، تشير إلى منهج تفاعل هذه العقلية مع السنن، وما ينتج عن ذلك من أحداث وأزمات ومواقف ومواجهات. وينبئ هذا المدخل، بوصفه مفهوما تحليليا، عن قدرة تفسيرية بصيرة وناقدة لإضفاء سمات أبدية وتحكّمية على الشخصية القومية ضمن عمليات الغزو الحضاري والمعنوي، وعمليات التسميم السياسي، ووقائع الحروب النفسية، وتكريس الهزائم معنويًا.
على أي منظّر لحركة التاريخ في سبيل الوصول إلى منطلقات التحرّك التاريخي للشعوب أن يحيط بحركة الأمة ضمن وحدتها العضوية التاريخية
وضمن هذه المقدّمات التحليلية والمنهجية، يتعلق الأمر هنا بمفاهيم مختزلة في الفهم والتأويل، ومقاربات موهومة في النهوض والتغيير، ومن دون ذلك الوقوف المتعمّق والبصير لتلك المفاهيم وما تتركه من مآلات وآثار، وتدبر هذه المقولات ومناط الوهن فيها، فإننا سنظل نتعاطى مع تلك المفاهيم بغير حقّها، وتلك المقاربات والاقترابات من دون فهمها أو نقدها. وفي هذا الإطار، تحتاج المقاربة التي تتعلق بالشخصية القومية، انطلاقًا من اهتمامنا بعلم اجتماع المعرفة، التعرّف إلى مقصود مؤلفيها من كتابتها والسياقات الزمنية التي صدرت فيها، من دون أن ننزلق إلى إغراء التعميم التاريخي الموهوم، أو إغراق الأوصاف الحتمي المزعوم، وهو ما مارسه مؤلفون كثيرون في هذا الباب. ومنذ صدرت تأليفاتٌ كثيرةٌ عن روح الجماعات وجوهر سماتها، ونفسية الجماعات وأصول تكوينها، فإنها يجب أن تعبّر عن حقائق تتعلق بالوعي الجمعي والإرادة الجماعية، وليس التعبير عن صفات مؤبّدة أو سمات حتمية، فالانزلاق إلى مثل ذلك ضمن سياقات الواقع المعاصر المأزوم، والذي يحمل مظاهر ضعف بادية ووهن ظاهر وفاضح، إنما يعني القدرة على تحليل هذه الظواهر ضمن مقولة السنن الشرطية.
وكذلك ينطبق هذا التحليل على المقاربة والمقولات نفسها التي تتعلق ببنية الواقع العربي وتكوينه، ووصمه بصفاتٍ معيّنة، ذلك أن هذه الدراسات إن لم تتوقف عن ظواهر سلبية من دون أن تهمل أو تغفل إمكانات التحوّل والتغيير من مثل ما قام به بعضهم من الحديث عن أزمة العقل العربي أو أزمة العقل المسلم، فإن هذه الإشارة إنما تفيد بأن من الأزمات ما يكون بنيويا، ولكن تعبير الأزمة في عمومه غالبًا ما يشير إلى حالة مؤقتة يمكن الانتصار عليها أو مداواة عللها، ومن هنا كان علينا أن نراجع كل تلك المقولات ضمن تصوّراتنا، والاستفادة من المقاربة النفسية الاجتماعية والسياسية فنعطيها حقّها، ولكن علينا ألا نُسرف فيما قامت به بعض الدراسات بحديثها عن سلبيات تلك الشخصية القومية أو المتعلقة بالعقل العربي، وكأنها حتمًا مقضيًا غير قابلة للتغيير والتقويم.