مفاوضات ترسيم في زمن الانهيار اللبناني
للمرّة الأولى منذ 30 عاماً سيدخل لبنان في مفاوضاتٍ غير مباشرة مع إسرائيل على ترسيم حدوده البحرية، وحلّ خلافه معها على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة. سيسجّل هذا الإنجاز في التاريخ باسم رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه برّي، الذي تولى معالجة هذا الملف مع الموفدين الأميركيين على مر العامين الماضيين، بصفته المزدوجة ممثلا عن الحكومة اللبنانية وممثلا للثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله. وربما يعطي هذا التمثيل أهمية أكبر لهذا الإعلان، لأن معناه موافقة حزب الله على هذه الخطوة المهمة والاستثنائية، والتي من دونها لما كان ممكناً. وهذه حقيقة يعرفها جيداً الإسرائيليون والأميركيون.
يعود الخلاف بين لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية إلى العام 2007، وبعد توقيع لبنان وقبرص اتفاقاً على ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. من بعدها قام لبنان بترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل بصورة أحادية، وأودع الترسيم الأمم المتحدة في سنة 2010، ثم رفضته إسرائيل، وزعمت أنه يدخل ضمن مساحة تبلغ 850 كيلومتراً مربعاً تقول إنها تقع ضمن مياهها الإقليمية. وفي 2011 طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة التوسّط مع لبنان للتوصل إلى اتفاق، تجنباً لبحث المسألة ضمن إطار اللجنة العسكرية اللبنانية - الإسرائيلية المشتركة التي أقيمت بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1701، والذي صدر بعد انتهاء حرب تموز 2006، والذي شمل أيضاً بحث المسائل المتعلقة بالحدود البحرية والبرّية مع إسرائيل. وسبب هذه المعارضة عدم رغبة إسرائيل عموماً اضطلاع الأمم المتحدة بأي دور في تسوية حدودها. وفي المفاوضات غير المباشرة خلال العامين، 2011 و2012، استعدت إسرائيل لإعطاء لبنان 55% من المنطقة المتنازع عليها في مقابل احتفاظها بنسبة 45%، لكنها لم تتلق جواباً نهائياً من لبنان، حتى إعلان نبيه برّي. ويبدو أن لبنان وافق أخيراً على البدء بترسيم الحدود البحرية أولاً، والذي كان شرطا لإسرائيل شجع عليه مفاوضاتٍ جرت منذ منتصف العام الماضي (2019)، تولاها مساعدا وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، وديفيد شينكر.
في 2011 طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة التوسّط مع لبنان للتوصل إلى اتفاق، تجنباً لبحث المسألة ضمن إطار اللجنة العسكرية المشتركة التي أقيمت بموجب قرار مجلس الأمن 1701
للتوصل إلى اتفاق على ترسيم الحدود البحرية أهمية اقتصادية قصوى بالنسبة إلى إسرائيل التي بدأت التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط قبل 20 عاماً، وفي ظل الإستثمارات الهائلة التي وظفتها في ترسيم خرائط مكامن الغاز المحتملة. في وقتٍ يزداد اعتماد إسرائيل في استهلاكها الطاقة على الغاز الطبيعي المستخرج من حقولها، فقد أصبح الغاز مصدراً لإنتاج نحو ثلثي الطاقة التي تستهلكها إسرائيل. هذا بالاضافة إلى الأهمية الإستراتيجية للخطوة وانعكاساتها المحتملة على التوترات بين إسرائيل وحزب الله على الجبهة الشمالية.
وللقرار اللبناني تداعيات اقتصادية شديدة الأهمية على لبنان، فهو يأتي في ذروة أزمة اقتصادية ومالية خانقة. صحيحٌ أن بدء المفاوضات لا يعني بدء لبنان في التنقيب عن الغاز، لكنه سيعطي إشارة إيجابية للدول الغربية والمجتمع الدولي وللمستثمرين في قطاع الغاز تحديداً، ويمكن أن يساهم قليلاُ في استعادة الثقة الدولية في الاقتصاد اللبناني. كما أن نجاح المفاوضات قد يشكل مدخلاً لانضمام لبنان إلى منتدى الغاز في الحوض الشرقي من البحر المتوسط الذي يضم مصر واليونان وقبرص وإسرائيل، مع كل التداعيات الإيجابية التي يحملها ذلك على مستقبل لبنان في مجال الطاقة.
للقرار اللبناني تداعيات اقتصادية شديدة الأهمية على لبنان، فهو يأتي في ذروة أزمة اقتصادية ومالية خانقة
ويأتي إعلان رئيس مجلس النواب ضمن مسار سياسي داخلي لبناني، بعد فشل المبادرة الفرنسية في مساعدة لبنان على تشكيل حكومة "مهمة" مستقلة، واعتذار مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة بسبب إصرار الثناني الشيعي على الاحتفاظ بوزارة المالية وتسمية الوزراء الشيعة، الأمر الذي أدّى إلى نسف فكرة حكومة من المستقلين عن الأحزاب، يضاف إلى ذلك اتهام الرئيس الفرنسي، ماكرون، حزب الله وحركة أمل بإفشال المبادرة وسؤاله لهم: إلى أين تقودون لبنان؟
حاول برّي تظهير الدور الإيجابي الذي قام به ومن ورائه "الثنائي الشيعي" في الدفاع عن مصلحة لبنان، والردّ ضمناً على الاتهامات التي وجهت إليه بمفاقمة الأزمة السياسية والاقتصادية الحادّة التي يمر بها لبنان. ورسالة الى الخارج أن الثنائي الشيعي لا يخاف من الضغط الأميركي، ولا من العقوبات ضد شخصياته ومؤسساته، وهو قادرٌ على مواجهة ذلك، والدليل إنجاح برّي لجهود الوساطة الأميركية بين لبنان وإسرائيل، وحصوله على ثناء وزير الخارجية الأميركي ومساعديه. كما يحمل الإعلان رسالة إلى فرنسا التي يرى حزب الله أن رئيسها تخطّى الحدود، عندما اتهم الحزب بعرقلة تأليف حكومةٍ مستقلةٍ في لبنان.
حاول برّي تظهير الدور الإيجابي الذي قام به ومن ورائه "الثنائي الشيعي" في الدفاع عن مصلحة لبنان
أسئلة كثيرة تبقى من دون إجابات واضحة، مثل: هل بدء المفاوضات غير المباشرة في الناقورة سيساهم في التخفيف من حدّة التوتر على الحدود اللبنانية الجنوبية بين إسرائيل وحزب الله المستمر منذ تهديد الأمين العام للحزب، حسن نصرالله، بالانتقام لمقتل أحد اعضائه في هجوم إسرائيلي في دمشق قبل شهرين؟ وهل ستساهم المفاوضات بتحقيق انفراج حقيقي على صعيد الوضع الداخلي المتأزّم في لبنان؟ وهل سيؤدّي نجاح الوساطة الأميركية إلى صرف النظر عن فرض عقوباتٍ جديدةٍ على حزب الله وحلفائه في لبنان؟