مقارنات تتفيه القضية الفلسطينية
مثلما أن الأوبئة والكوارث الطبيعية تُخرج من البشر أسوأ ما عندهم وأنبله من سلوكيات في آن، فإن الحروب تستفز في المجتمعات والدول أكثر الردود انتهازية مقابل أكثرها تضامناً إنسانياً عابراً للأديان والأعراق والثقافات. حرب شطب أكثر من مليوني فلسطيني من الوجود في غزّة عرّفتنا على ملايين الأوروبيين والأميركيين والآسيويين والأفارقة الذين يتظاهرون، ويغضبون ويضغطون ويتبرّعون ويكتبون ويصرخون أفراداً وأحزاباً، دعماً للحقّ الفلسطيني. غير أن الحرب كان لها أيضاً مفعول الانتهازية بأفظع مصطلحاتها ومقارناتها، في دولٍ تتاجر بقضايا معجونة بالدم والظلم بسهولة متاجرة بائع طماطم بصندوق بالناقص هنا وبدولار بالزائد هناك. النتيجة تتفيه، عن قصد حيناً وعن سذاجة حيناً آخر، معاناة شعبٍ آخِر ما يرغب فيه حالياً استرخاص عذاباته.
تظاهرة إسطنبول الحاشدة في اليوم الأول من العام الحالي، أول من أمس الاثنين، وتصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للإعلام المحلي قبل أيام، تصلحان للدراسة في سياق مقارنات التتفيه. في المدينة التركية، تجمّع مئات الآلاف في محيط جسر غلطة الشهير تنديداً بـ"إرهاب حزب العمّال الكردستاني وإسرائيل" بدعوة من 300 منظمة وجمعية تحت شعار "الرحمة لشهدائنا، الدعم لفلسطين، واللعنة على إسرائيل". الخطيب الرئيسي في المظاهرة ضلّ سريعاً طريق فلسطين ليوجّه التحية إلى "شهداء الجيش" التركي الذين سقطوا في العراق. فجأة تحوّلت فعالية من أجل فلسطين إلى مادّة للاستقطاب الداخلي في إطار حرب الحكومات التركية المتعاقبة على حزب العمّال الكردستاني والقوميين الأكراد عموماً، أكانوا أتراكاً أم عراقيين أم سوريين أم إيرانيين، وقد قُتل، في أحدث جولات الحرب تلك، 12 جندياً تركياً في الساعات الأخيرة من العام المنصرم في هجوميْن لحزب العمّال الكردستاني في شمال العراق. ولمّا جاء الوقت للكلام على المجزرة الفلسطينية، بشّرنا الرجل بأنه زار الضفة الغربية والقدس وغزّة، ولاحظ أن "السكان في هذه المناطق يعلّقون آمالهم على تركيا".
لكن وضع إسرائيل وحزب العمّال الكردستاني في سلة واحدة من قبل العقل التركي الحاكم، يُقابَل بتشبيه مقابل يتبنّاه قوميون أكراد كثر يضعون إسرائيل وتركيا في الميزان نفسه، ليُصبح الفلسطيني مقابلاً للكردي في هذه الحسبة، على اعتبار أن كليهما محرومان من دولة وطنية. ولكي تتفاقم غرابة المقارنات، يقتحم انتهازيٌّ بحجم سيرغي لافروف الميدان، ويعقد في حديث لوسائل إعلام روسية معادلات رياضية تشبه مماثلة إسرائيل وحزب العمّال الكردستاني. بموجب المنطق الروسي ذاك، إسرائيل هي روسيا، بينما أوكرانيا هي الفلسطينيون. روسيا تحارب النازية في أوكرانيا مثلما تقاتل إسرائيل الإرهاب في فلسطين. ولكي تكتمل فصول المقارنات العجائبية، يطمئننا قوميون انفصاليون في أوروبا، من إقليمي كتالونيا والباسك واسكتلندا خصوصاً، على أنهم يعرفون حقّ المعرفة معاناة الفلسطينيين، ذلك أنهم يتعرّضون لظلم في بلدانهم الأوروبية من صنف ما يتعرّض له الفلسطينيون على يد حكام إسرائيل ومستوطنيها.
هل يحقّ للفلسطيني، بعد استعراض كل هذه المهازل، أن يطالب هذه الفئة من الرفاق المتضامنين بهدنة، ريثما يدفن ضحاياه ويتحسّر على منزله المدمر وأرضه المسلوبة، ولكي يرصُد أين أصبح مشروع تهجيره؟