مقاطع من فيصل حوراني
فور أن صادفتُ نبأ وفاة الكاتب والباحث والروائي الفلسطيني، فيصل حوراني (83 عاما)، الأربعاء الماضي، استدعى خاطري حكايةً طريفةً سمعتُها منه في أول مرّة ألتقيه فيها (تلتها ثانية وأخيرة بعدها بيومين) في منزل المؤرّخ صالح الحمارنة، في عمّان، برفقة الصديقين الراحليْن، صلاح حزيّن وجوزف سماحة، قبل 27 عاما، موجزُها أنه كان، إبّان مقامه وعيشه في دمشق، يكتب زاويةً يوميةً في صحيفة "البعث"، لها عنوان ترويسةٍ ثابتة، "من العالم" (أو شيءٍ مثله)، وحدَث أن تغييرا حكوميا جرى في إسرائيل، فكتب عنه مقالَه، لكن الصحيفة في اليوم التالي لم تنشره، ثم استوضح عن السبب فأجابه رئيس التحرير إن سورية لا تعترف بوجود إسرائيل من العالم، ونشْر الزاوية تحت اسمها العام سيعني تغيّرا في موقف سورية، فكان عدم النشر هو الأنسب. .. روى حوراني الواقعة ضاحكا وساخرا بين عدّة حكاياتٍ وطرائف ووقائع في جلسة تلك العصرية الصيفية الوديعة، لم يبق في شاشة ذاكرتي منها سوى هذه، ولكن الباقي من قراءاتي فيصل حوراني كثيرٌ، فضلا عن التقدير الواسع فيّ، وفي غيري من عدة أجيال فلسطينية، لشخصه، كاتبا وواحدا من أهم رواة التغريبة الفلسطينية وحكّائيها وحُماتها، وهو تقديرٌ لا بد يمحضُه إيّاه كل قارئٍ له، وكل عارفٍ بتجربته الفلسطينية العربية الطويلة، في محطّاتٍ غير قليلة. ولا تزيّد في القول إن لإرثه في البحث والسيرة والرواية قيمةً خاصةً في المدوّنة الفلسطينية، سيما وأن لغته اتّصفت بالمرونة والدقّة والمباشرة الحاذقة، فكتابه "الفكر السياسي الفلسطيني 1964 - 1974" (صدر في 1980)، والذي لا أنسى قراءتنا له في طبعةٍ متقشّفة، إبّان مرحلتنا الجامعية في النصف الأول من الثمانينيات، اتصف بروحٍ نقديةٍ وتحليلية، فضلا عن إيقاع البحث التأريخي، وقد ضمّنه نقدا لأداء فصائل منظمة التحرير في غير أمر، ومنه في الأردن، والذي أدّى إلى أحداث أيلول 1970، وهذا ما كان من أجواء روايته الأولى "المحاصرون" (1975).
وإذ يغيب فيصل حوراني في منفاه الأوروبي (أقام عقودا في فيينا، وتوفي في رحلة علاجٍ في جنيف)، عشية ذكرى نكبة فلسطين، فإنها مصادفةٌ تُحيل إلى واحدةٍ من أهم الأعمال الروائية الفلسطينية التي انشغلت بواقعة نكبة 1948، وهي ثاني روايات كاتبنا "بير الشوم" (1979). وإنْ كنت لا أتذكّر تفاصيلها تماما، وهي الوحيدة من الروايات الثلاث لكاتبنا الراحل قرأتُها له قبل عقود، فإنه باقٍ في البال إنها احتشدت بالتعبير باللغة المحكية العامية الفلسطينية، في منطوق شخصياتها، في الأسابيع الأولى لاحتلال فلسطين الأول. وهي تذهب إلى وقائع عسكريةٍ في مواجهات جيوشٍ عربيةٍ مع عصابات الصهاينة، وتحضُر في الأثناء شخصياتٌ مجاهدةٌ وأخرى انتهازية. والمرجّح أن حوراني كتبها مستفيدا من محكياتٍ سمعها في صغره، ومن قراءاته تاليا. وفي العموم، ظلت سيرة الكاتب الراحل وتجاربه الشخصية مصدرا مهما لكتاباته الإبداعية، فروايته الثالثة "سمك اللجّة" (1983) تفيد من عمله في التدريس في بلدة سورية، ومن نشاطه السياسي في عضويته في حزب البعث في سورية، الحزب الذي أمضى فيه سنواتٍ قبل أن يجري فصله منه.
وتعدّ سيرة فيصل حوراني التي نشرها في خمسة أجزاء، وأعطى لكل جزءٍ اسما، صدر الأول "الوطن في الذاكرة" في 1994، والخامس "دروب المنفى" في 2003، العمل الأكثر سعةً في نتاج الراحل الكبير، على صعيد تنوّع الموضوعات التي جاء عليها، وزاوج، عند الكتابة عنها، بين الخاص والعام، وبدت عملا توثيقيا وروائيا وتأريخيا في آن، وسيرةً فكريةً وسياسيةً على قدرٍ غير هيّنٍ من الأهمية في الإضاءة على مقاطع سورية وفلسطينية وعربية منذ الخمسينيات وحتى التسعينيات. وهو المولود في 1939 في قرية المسميّة في قطاع غزة، ونزحت أسرته إلى سورية، ونشط في حزب البعث، كما ترأس رابطة طلبة فلسطين في 1964، وكان قريبا من ياسر عرفات الذي عيّنه مستشارا له (لحوراني نكاتٌ كثيرةٌ في هذا الشأن)، ومن قادة فلسطينيين كثيرين. ومن بين أوصافٍ له غير قليلة، جاء عليها أصحابٌ وأصدقاءٌ ومعارفُ له في نعيه، إنه كان "غوغل" زمانه، من فرط اتساع ذاكرته ومحفوظاته. ويستشعر المرء في فقد كاتبٍ بمقامه وقامته، في منفى أوروبي بارد، خسارةً فلسطينيةً خاصة، وقد كان من حرّاس الذاكرة الفلسطينية. .. والمأمول أن يبقى حاضرا بيننا، بأن نقرأ الكثير الذي كتب، وأبدع فيه وأجاد، رحمه الله.