مقتدى الصدر على طريق الحريري
لطالما بدا الزعيم لديني والسياسي العراقي مقتدى الصدر لُغزاً من جهة، ورقماً صعباً من جهة ثانية. ولم يؤد قراره، أخيرا، استقالة نواب كتلته النيابية (73 نائبا) لإجلاء هذا اللغز، ولا بخروجه الفعلي من الحياة السياسية والعامة، وقد استقال النواب بالفعل، الأحد الماضي، 12 يونيو/ حزيران الجاري، وقد اشتمل القرار على غلق مقرّات تياره السياسي في المدن العراقية، مع الإبقاء على النشاط الديني للتيار، ومن دون أن يرافق هذا القرار بيان يفسّر هذه الخطوة المثيرة، باستثناء القول إنه قرّر الانسحاب من العملية السياسية في البلاد وعدم المشاركة في أي انتخابات مقبلة، حتى لا يشترك مع الساسة "الفاسدين".
وجاء إعلان الصدر خلال اجتماعه في النجف (جنوب بغداد) بنواب الكتلة الصدرية الذين قدّموا استقالاتهم بناء على طلبه. وكان سبق أن وصف قراره بأنه "تضحية من أجل الوطن لتخليصه من المصير المجهول"، ولكن من دون أن يوضح كيف أن ترجيح كتلة منافسيه في "الإطار التنسيقي" بزيادة عدد أعضائها الذين سيملأون مقاعد التيار الفارغة، سوف يُساهم في تخليص الوطن من المجهول، على حد قوله. أما أن يعزو الأمر، أخيرا، إلى اكتشافه الفساد والمفسدين، فقد كان الظن القائم والانطباع السائد، إن لم تكن القناعة المتوطّنة، أن الهدف من خوض الانتخابات النيابية هو السعي إلى تغيير هذا الواقع المتقادم غير المستجدّ.
أن ينفرد تيار الصدر بهذا القرار من دون حليفيه، فذلك يعني بداهةً تفكّك هذا التحالف الذي كان يشكل كتلة سياسية مانعة في وجه قوى الأمر الواقع
على أن التفسير الذي ركن إليه متابعون للوضع العراقي يتمحور حول أن الصدر يعتزم اللجوء إلى الشارع والاحتكام إليه، مع إبداء التوجس من ذلك، وهو تفسيرٌ تعوزه الشواهد الكافية التي تسنده، فقد تحالف الصدر مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ومع كتلة "تقدّم" السنية خلال الحملة الانتخابية. وبعد إجراء الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وضمن تحالف حمل اسم "تحالف إنقاذ وطن"، وقد اتخذ الرجل، كما يبدو، قراره بمعزل عن الحلفاء، وأقله بدون التفاهم أو الاتفاق معهم. ولذلك اكتفى بتوجيه الشكر "لحلفائنا لما أبدوه من وطنية وثبات، وهم الآن في حِلٍّ مني". وقد نسب إلى رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي قوله إنه حاول ثني الصدر عن قراره، لكنه لم يفلح في مسعاه، فاضطرّ، بصفته رئيسا للمجلس النيابي، لتوقيع كتب النواب المستقيلين. وهؤلاء لم ترشح عنهم تصريحات أو مواقف تفسّر القرار، وقد استجابوا له استجابة تلقائية وشبه حزبية، وبعبارة أخرى: بغير نقاش. والأهم أن الصدر لم يخاطب الناخبين الذين اقترعوا لمرشّحي التيار، ولم يخاطب من ورائهم الرأي العام، بمجمله، بما يكشف أبعاد قراره هذا وبالذات ما هي الخطوة التالية، مكتفيا بإعلان عزمه على الانسحاب من العملية السياسية.
ومن اللافت بعدئذ أن القرار لم يترك على الفور أثرا واضحا داخل المجلس النيابي، بالرغم مما يعنيه انسحاب كتلة كبيرة من فراغ تمثيلي ينجم عن هذا القرار. علما أن هذا القرار كان مقدّرا له أن يكون مفهوما وذا أثر سياسي كبير لو أن التحالف الثلاثي اتخذه، الديمقراطي الكردستاني وكتلة "تقدّم" التي يقودها الحلبوسي إضافة إلى تيار الصدر. إذ كان من شأن هذه الخطوة أن تؤدّي، على الأغلب، إلى حل المجلس، والدعوة إلى انتخابات جديدة، وفي ظرفٍ سياسيٍّ مُواتٍ لهذا التحالف. أما أن ينفرد تيار الصدر بهذا القرار من دون حليفيه، فذلك يعني بداهةً تفكّك هذا التحالف الذي كان يشكل كتلة سياسية مانعة في وجه قوى الأمر الواقع، وهو ما عبّر عنه الصدر بقوله "هم الآن في حلٍّ مني".
اشتكى الحريري من النفوذ الإيراني في بلده ومن نذر انهيار الدولة كما هو حال الصدر.
ربما كان من المبكّر استقراء ردود الفعل الشعبية وتفاعل الشارع مع الرسالة السياسية "المضمرة" لهذا القرار، وهي نزع الثقة بالمؤسسات ونعي العملية السياسية، إذ لم يمضِ على اتخاذ القرار وإنفاذه سوى أسبوع. ولكن التساؤل يثور بهذه المناسبة: هل يمكن أن ينهض حراك شعبي أو صحوة سياسية على مجرّد التكهن بنيات الصدر ومراميه؟ هذا مع ملاحظة أن أركان الطرف الشيعي الآخر قد سارعوا للتحذير من "اضطرابات سياسية" ومن "إرباك العملية السياسية"، وإلى درجة دعوة المرجعية في النجف (آية الله السيستاني) إلى التدخل، كما ورد على لسان زعيم تحالف الفتح هادي العامري، وزعيم مليشيا "العصائب" قيس الخزعلي. وبهذا، غدا زعماء المليشيات المسلحة بين ليلة وضحاها دعاة إلى الهدوء والأمن والاستقرار، ولتمكين المؤسسات الدستورية من أداء عملها، وذلك في خطوة استباقية لإبطال فرص الصدر في مخاطبة الشارع وتحريكه، إذا كان في نيته الإقدام على ذلك. ويستذكر متابعون أنه لم يتفاعل إلا في حدود ضيقة مع انتفاضة الشارع في الأعوام القليلة الماضية، وبالذات بين عامي 2018 و2020، وهي الانتفاضة التي ساهم انتشار جائحة كورونا في إيقافها، إضافة إلى حملة الاغتيالات التي استهدفت الناشطين، وقد سقط مئات منهم، من دون أن توجّه اتهاماتٌ إلى أحد من الفاعلين. ومع ذلك، كان اندفاع الصدر إلى خوض الانتخابات النيابية بمنزلة إشارةٍ إلى أنه قد تلقى رسالة الانتفاضة الشعبية، وأنه سوف يتبنّى مطالب المنتفضين، وهو ما أدّى إلى تحقيق تياره نتائج باهرة في الانتخابات، غير أن اصطدامه بصعوبات تشكيل حكومة، وكذلك اختيار رئيسٍ جديد للجمهورية، قد أدّيا إلى اتخاذ قراره السريع هذا، والذي أدّى إلى إهداء عشرات المقاعد النيابية إلى تحالف "الإطار التنسيقي". وبهذا، فإن ما أخفقوا في تحقيقه عبر صناديق الاقتراع قد أمكنهم تحقيقه نتيجة خطوة الصدر التي أدّت إلى تصعيد أعلى الخاسرين منهم.
يعيد قرار الصدر الانسحاب من العملية السياسية إلى الأذهان ما أقدم عليه النائب آنذاك ورئيس الحكومة السابق في لبنان سعد الحريري، حين اعلن في 24 يناير/ كانون الثاني الماضي اعتزاله العمل السياسي، مع بعض الفوارق والمشتركات في الحالتين. من بين أبرز الفوارق أن لبنان كان آنذاك يستعد لإجراء الانتخابات النيابية، بينما جاءت خطوة الصدر بعد إعلان نتائج الانتخابات التي احتل فيها مركزاً متقدّماً. وقد كانت جذوة الانتفاضة الشعبية مشتعلة في لبنان لدى اتخاذ الحريري قراره، فيما كان القمع الوحشي قد أودى بالانتفاضة العراقية قبل إعلان الصدر عن قراره. أما المشتركات فهي وفيرة، فقد اشتكى الحريري من النفوذ الإيراني في بلده ومن نذر انهيار الدولة كما هو حال الصدر. وقد أوقف الحريري نشاط تياره "المستقبل" (بدون أن يكون هناك قرار جماعي لممثلي التيار بهذا الاتجاه)، وهو ما تكرّر في حالة الصدر. أما المشترك السياسي الأكثر أهمية فهو الانسحاب، وترك الميدان البرلماني والسياسي للمنافسين والخصوم الذين لا يوفرون وسيلة أو أداة للاستحواذ على الحياة السياسية، وحتى تحت ضغط السلاح والتهديد به، والذين تتضاعف شهوتهم للاستحواذ لدى انسحاب شخصيات مثل الصدر أو الحريري.