مقتدى الصدر .. مشروع تغيير أم إعادة تدوير؟
لا يبدو مصيباً رهان بعضهم في العراق على مقتدى الصدر، وعلى مشروعه الذي يسمّيه "ثورة إصلاح ورفض للضيم والفساد"، فثمة شكوكٌ كثيرة تحيط بالمشروع وبصاحبه الذي كان، إلى حد قريب، أحد أعمدة "العملية السياسية" الطائفية التي حكمت البلاد عشرين عاماً، وكان له وزراؤه ونوابه الذين تواطأوا، وبإصرار، على صنع هذا الخراب الذي عمّ البلاد، كما عرف بوقوفه وراء عمليات خطف واغتيال كثيرين من الناشطين ومن ثوار تشرين، يضاف إلى هذا كله سرعة تنقله بين هذا الموقف وذاك، بما يُضعف الثقة به وبمشروعه.
لكن، ربما لاقت بعض طروحاته أخيراً في "تغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات"، وإدانته "الفساد والتفرد بالسلطة والولاء للخارج والمحاصصة الطائفية" هوى لدى بعضٍ ممن يرفضون التبعية لـ"دولة ولاية الفقيه" وتوغل المليشيات في الحياة العامة، ولذلك أصبحوا يراهنون عليه لإحداث التغيير المنشود، كون تلك الطروحات تستجيب لتطلعات مد شعبي غاضب، يريد إخراج العراق من عنق الزجاجة، وإسقاط "العملية السياسية" الحالية، وإعادة بناء الدولة على أسس وطنية خالصة، ويبحث عن خشبة خلاصٍ يستعين بها على التغيير، إلّا أنّ ما أصبح بديهياً أنّ تغييراً جذرياً كهذا لا يمكن أن يتم إلّا عبر عملية جراحية كبرى، ثورة شعبية يشارك فيها كلّ الوطنيين باختلاف توجهاتهم. وقراءة موضوعية لواقع الحال تجعلنا ندرك أننا لن نكون مقبلين، عبر مشروع الصدر، على ثورةٍ من هذا النوع ولا حتى على نصف ثورة، إن صحّ التعبير، ونخشى أن يكون ما يجري اليوم ليس سوى محاولة لإعادة تدوير نفايات "العملية السياسية" الطائفية التي أغرقت البلاد، ولإيجاد المخارج اللازمة لإنقاذ الطبقة السياسية الحاكمة من السقوط. وما يطفو على السطح ليس سوى مشاهد لصراع يختفي تارّة ويظهر أخرى تحت تأثير عوامل مختلفة بين "زعامات" قاصرة تختلف مرّة، وتأتلف مرّات على مواقع السلطة، وعلى الاستحواذ على المال العام والقرار، وتتّحد وتتراصّ عندما يحيق بها ضيم، وقد أتقنت اللعبة على امتداد عشرين عاماً، وهي تخطّط اليوم للبقاء عشرين عاماً أخرى!
ولا يكون في الحسبان أنّ بإمكان الصدر قيادة فعل تغيير كبير وحقيقي كالذي يريده العراقيون، وإن حاول أن يخلق زعامة شعبوية له بين فقراء المكوّن الذي يزعم تمثيله له. مع ذلك، ولكي نصدّق أنّه جاد في طروحاته، ندعوه الى الانسلاخ تماماً عن ماضيه المشوب بالدم، والتوجّه بعقل مفتوح إلى العراقيين جميعاً، والاعتذار لهم عما ارتكبه تياره من أخطاء وخطايا، عند ذاك، يمكن أن تشكل توبته دافعاً للآخرين، وعلى الأخص لثوار تشرين لدعمه وتمكينه، وإلّا فإنّ الرياح لا يمكنها أن تساند خطوات امرئ إذا لم يكن اتجاهه ثابتاً، بحسب ما كان يقوله المفكر الأميركي جورج سانتيانا.
بإمكان الصدر قيادة فعل تغيير كبير وحقيقي كالذي يريده العراقيون، وإن حاول أن يخلق زعامة شعبوية له بين فقراء المكوّن الذي يزعم تمثيله له
مع ذلك، ولكي لا نبخّس الناس أشياءهم نشير إلى "الفضائل" التي حققتها "انتفاضة" الصدر أخيراً، فقد "شرشحت" تكتل الإطار التنسيقي، وجعلت شظاياه تتطاير شذر مذر، وأحدثت رعباً داخله، إلى درجة أنّها أظهرت قياداته خائفة ومخيفة في آن، كما صنعت موقعاً شعبوياً للصدر نفسه أصبح من الصعب عليه تجاوزه وتخطّيه، وأيضاً جعلت الذين كانوا يروّجون، إلى حد قريب، استحالة التغيير في العراق يتحدّثون اليوم عن "مستحيل" قد يصبح ممكناً، ونقلت شعارات التغيير الى الواجهة، وحولت كلّ اللاعبين السياسيين، بقدرة قادر، إلى دعاة للإصلاح والتغيير، ورافعين شعارات محاربة الفساد وخدمة المواطن، كما حجّمت "الانتفاضة" من سلطة الرئاسات الثلاث، ووضعتها في حالة عجز تام عن فعل شيء، وأوضحت لهم أنّ ثمة فعلاً يمكن أن يصنعه الشارع.
بقي أن نذكر بالخير شباب ثورة تشرين الذين وضعوا أقدامهم على طريق التغيير بثبات، رغم أن عوامل عديدة أعاقت حركتهم، ومطلوب منهم اليوم أن يطرحوا مشروعهم الوطني على الطاولة، مستفيدين من حركة الشارع الماثلة، وإذا كان هدف التغيير الشامل قد سجّل نكوصا في مرحلة سابقة، لسببٍ أو لآخر، فإنّ ما يظهر اليوم على السطح من إرهاصات، وربما تحولات، يمدّنا بالأمل في أنّ الفعل "المستحيل" أوشك أن يصبح ممكناً، وفي قبضة اليد، وربما تقود إليه بضع خطوات فقط.
وفي هذه المرّة، لن يكون انتظار الحلّ أفضل حلّ ممكن.