مقطع سوداني في 2023
كتابٌ فريدٌ في مبحثه، "كتبٌ تحترق ... تاريخ تدمير المكتبات"، أحاط فيه مؤلّفه الفرنسي، لوسيان بولاسترون، بوقائع بعيدة في التاريخ القديم وصولا إلى أخرى قريبة من عام صدوره (2004)، أغار فيها معتدون ومحاربون و"همج" على مكتباتٍ ومتاحف، ونهبوا ودمّروا وأتلفوا وأحرقوا وثائق وكتبا ومخطوطاتٍ بلا عدد. وحسنا صنَعت وزارة الثقافة والفنون والتراث في قطر بإصدار الكتاب بالعربية (460 صفحة)، بترجمة هاشم صالح ومحمد مخلوف (مراجعة عبد الودود العمراني) في 2010. ولمّا لم تتوقّف هذه الجرائم في العشرين عاما التي تلت نشر الكتاب، ثمّة الحاجة، إذن، لأن تنضافَ إليه ملاحقُ وتتمّاتٌ، فالذين يُؤثِرون حرق المكتبات ونهب المتاحف وضرب المآثر الثقافية يواظبون على فِعالهم تلك. وهذه الحرب العدوانية التي يواصلها القتلة الإسرائيليون في قطاع غزّة تحفل باستهدافاتهم مكتباتٍ ومتاحفَ هناك. وإذ توثّقها وزارة الثقافة الفلسطينية في تقارير (أولية) بالعربية والإنكليزية، فإن صاحب هذه الكلمات يُعفي نفسَه من الاستطراد في موضوعها، على غير ما ستفعل سطورُه التالية بشأن همجٍ آخرين من غير النوع الإسرائيلي، هناك في السودان، أثقلوا العام الذي انصرف (2023) باعتداءاتٍ وجرائم حرقٍ وتدميرٍ ونهبٍ على مكتباتٍ ومتاحف، العام الذي قال وزير الثقافة السوداني، غراهام عبد القادر، في مطالِعه، إنه سيكون "عاما للمتاحف" في البلاد، وإن المتحف القومي في الخرطوم سيشهد فيه تطوّرا بعد افتتاحه في مظهرٍ جديدٍ يرقى إلى معايير عالمية. وفعلا، صار الذي "بشّر" به الوزير، فقد أغار همجٌ، في غضون الحرب المشهودة بين الجيش ومليشيا حميدتي، على هذا المتحف، الوطني لبلد الطرفيْن، ودمّروا فيه منحوتاتٍ وتماثيلََ وجدارياتٍ فرعونية، وفتحوا بابَه بعد نهبِه، لجوعى، ليبيعوا منه ما يبيعون.
الهمج نعتٌ ذائع، يستحقّه المنحطّون الذين يقترفون قتلا ونهبا وتدميرا من دون أي وازعٍ من أخلاق أو دين. والقول عند العارفين إن القصف العشوائي المتبادل في الحرب النشطة في السودان تسبّبَ بأضرارٍ واسعةٍ في مواقع أثريةٍ وثقافيةٍ عديدة، ولكن أفعالا متعمّدة بذاتها قصدت الإتيان على متاحف ومكتباتٍ، وتُنسَب إلى عناصر من المليشيا المنفلتة من أي ضوابط أو قيم، فأيّ تفسيرٍ في وُسعه أن يوضح أسباب استباحة همجٍ من اللون المسمّى هنا كلية الفنون الجميلة والتشكيلية في الخرطوم، ثم إحراقهم معارضَ ومقتنياتٍ فنيةً ثمينة، أنجزها طلابٌ وأساتذة منذ أزيد من 70 عاما؟ وأيّ واحدٍ في مقدوره أن يعرّفنا بأغراض الذين أحرقوا مكتبة مركزٍ للدراسات السودانية في جامعة أم درمان الأهلية، فأبيدت كتبٌ ووثائق نادرة استغرق جمعها أزيد من ثلاثة عقود؟. وقد أفضى عديدون من الطلبة والدارسين بعظيم أساهم لهذه الخسارة التي توازت مع عملية نهبٍ، استمرّت أياما، لممتلكات الجامعة.
ليس مقصد هذه المقالة أن تحيط بكل ما في هذا المقطع السوداني في 2023، بشأن مكتباتٍ أحرقها المعتدون، ومتاحف طاولتها أيديهم، وإنما أن ترمي أسئلةً في الفراغ عن الذي في أمخاخ هؤلاء وأضرابهم، فبواعث السرقة للإتّجار بالمقتنيات واللُّقى الأثرية معلومة، وثمّة مقاطع عراقية أنبأتنا بكثيرٍ من هذا، غير أن الذي يحرق مكتبة فيها مخطوطاتٌ وكتبٌ نادرة، ويدمّر لوحاتٍ في قاعة عرض، ما هو غرضه؟ أي ثأرٍ يناوش روحَه فيدفعُه إلى ارتكاب هذه الشنيعة وتلك؟ إن صحّ إن القتل والقتال هو عملُه الذي يواظب على تأديته من أجل راتبه أو مخصّصه الشهري، هل هو "عملٌ إضافي" يبادر إليه تطوّعا، أم هي تعليماتُ رؤسائه إليه، التخريب أكثر، وضرب الجمال والوداعة في أي فناءٍ أو بهوٍ أو صالةٍ أو ...؟ لا يعرف حميدتي، وخصومٌ له، وأتباعٌ له، شيئا عن معاهداتٍ دوليةٍ تلحّ على الحفاظ على الممتلكات الثقافية في النزاعات والحروب، ليس لوفرة ما يقيمون عليه من جهلٍ وشحِّ أخلاق، بل لأن أمورا كهذه ليس متصوّرا أن يقيم شيءٌ منها في مداركهم.
أقرأ في كتاب لوسيان بولاسترون أن المكتبة الوطنية في ليتوانيا تأسّست في 1919، وضمّت مائتي مجلد في 1941، أتلف الجيش الألماني منها أكثر من 19 ألفاً، ثم احتلّ الاتحاد السوفييتي البلاد مجدّدا، وجرت عملياتُ تخريبٍ في إطار عملية "تخليص المكتبات من المطبوعات الخطيرة أيديولوجيا"، فجرى إرسال 37 طنّا من الكتب إلى مصنع لعجينة الورق في العام 1950 وحدَه... حقّاً، أي أخطارٍ إيديولوجية (أو غير إيديولوجية) في الكتب التي أحرَقها ناس حميدتي في السودان، فاستحقّت ما صنعوه فيها؟