مكيدة فرنسية .. فتح الأرشيف الجزائري لحرب التّحرير
قد يبدو العنوان أعلاه قاسيا جدّا على ما بادرت إليه فرنسا من الاستجابة لمطلب جزائري قديم، له صلة باسترجاع جزء من ذاكرة الأمّة، تمّ استلابه فيما تم استلابه من تاريخ وهوية طوال قرن وربع القرن من الاستعمار الاستيطاني المقيت بكلّ مآسيه.
قرّر الرئيس الفرنسي، ماكرون، أخيرا، فتح أرشيف الثّورة التّحريرية في جانبه القضائي، وفق القرار الفرنسي، المتّصل بجانبٍ مظلم من ذاكرة تلك الفترة الرهيبة للشعب الجزائري، حيث عذب وقتل وأعدم مئات الآلاف من الجزائريين، بقيت تفاصيل ما حدث لهم مجهولا يلفّه غموضٌ كثير، بسبب الإنكار الفرنسي لتلك الجرائم وإرجاع ما حدث إلى ارتباطه بحرب كبيرة، ما كان يمكن للسلطات الفرنسية أن تديرها من دون تلك القبضة الإجرامية الرهيبة. كما ارتبطت تلك الجرائم بأوامر صادرة عن سلطتين، سياسية وعسكرية، وصلت بعض شخصياتها إلى أعلى مراتب الحكم في الدّولة الفرنسية، على غرار الرئيسين الراحلين، فرانسوا ميتيران وجاك شيراك، أو سياسيين يعدّون في أعين الفرنسيين من الأبطال، مثل بعض رؤساء الأحزاب والنّواب، بل الإعلاميين والمثقّفين، ممن ساهم في تلك الحرب أو سكت، عمدا، عن تلك الجرائم، على الرغم من علمها بها أو شهودها لها، في تلك الفترة. وكلنا يتذكّر الخصومة الشّهيرة بين الفيلسوف الوجودي، سارتر، وصديقه صاحب جائزة نوبل للآداب، المولود في الجزائر، ألبير كامو، بسبب صمت الأخير عن تلك الأحداث، بل تغيّر وجهته السياسية، أيضا، من اليسار النضالي إلى المثقف المستلب، حقّا، وفق آراء سارتر في زميله الاشتراكي، سابقا، كامو.
لا يعد فتح "الأرشيف الملغم"، في طياته، خطوة في مسار إصلاح الذاكرة بين فرنسا والجزائر، بل يحاول زجّ الجزائر في إشكالات تاريخية داخلية
يتم الإتيان على هذا توطئة للحديث عن القرار الفرنسي المعلن أخيرا، والإشكالات التي يمكن أن يُحدثها، والتّي قد تكون خافيةً عمّن رأى فيه خطوة في المسار الصّحيح في إصلاح عطب الذّاكرة بين البلدين، ومنها أن محلّلين أدلوا بآرائهم، ولم يلمسوا حقيقة المكيدة التي على الجزائريين الانتباه لها، أو يقتربوا منها، وهي على مستويات ثلاثة. أوّلها السّياسي، مرتبط بتوقيت القرار الفرنسي، الاستراتيجي، مرتبط بمقاربة ملّف الذّاكرة من الدّولتين، وليس من جولة مبادرة وبسياسة القطرة قطرة، ثمّ من الجانب القانوني - التّاريخي، مرتبط بطبيعة بعض ما يتضمّنه ذلك الأرشيف في سياق ما كانت الدّولة الفرنسية تقوم به، لمواجهة الثورة التحريرية الكبرى، باعتراف المؤرّخين الفرنسيين، أنفسهم.
يُلاحظ أنّ الرّئيس الفرنسي، على المستوى السّياسي، لم يكن من تحدّث عن القرار، بل ترك الفرصة، على الرّغم من عمق الأزمة الحالية في العلاقات بين البلدين، بعد تصريحات ماكرون، نفسه، أخيرا، عن تاريخ الجزائر وعن بعض الشؤون السّياسية الدّاخلية السّيادية للجزائر. وهناك من لم ينتبه إلى أهمّية هذه المقاربة في الإعلان عن القرار، وهو الجزء السّياسي من المكيدة، لأنّ الشّأن الجزائري يبقى، وفق ما تم القيام به، فرنسياً، ورقة انتخابية باعتبار توقيت الإعلان عن ذلك.
وباعتبار أنّ الجزائر سترى في القرار، سياسيا، أنه بتلك الصفة، كلّف ماكرون وزيرة الثقافة بالحديث، إعلاميا، عن جوانب القرار من الوجهتين، التاريخية والقضائية البحتة، من دون الالتفات إلى ارتباط القرار، حقيقة، بالانتخابات المقبلة، في مارس/آذار المقبل، حصوصا أن جانبا من ذلك القرار سيكون موجّها، في الدعاية الانتخابية، إلى ضلوع بعض التّيارات السّياسية، سيما اليسار الاشتراكي واليمين الديغولي الذي يحاول العودة من خلال إريك زمور، المترشّح الخطير، من وجهة نظر مناصري الرّئيس الفرنسي الحالي، في أحداث تلك الفترة العصيبة من تاريخ الجمهورية الرّابعة وبداية الجمهورية الخامسة، في فرنسا.
يشير الجانب الاستراتيجي من المكيدة الفرنسية، قرار فتح أرشيف الثورة الجزائرية التحريرية في جانبه القضائي، إلى المقاربة الفرنسية نفسها
يشير الجانب الاستراتيجي من المكيدة الفرنسية، قرار فتح أرشيف الثورة الجزائرية التحريرية في جانبه القضائي، إلى المقاربة الفرنسية نفسها، في حد ذاتها، بعد مسارعة ممثلها في لجنة الذاكرة، المؤرخ بنيامين ستورا، إلى تسليم تقرير الجانب الفرنسي من العمل التاريخي، أو لنقل الرؤية الفرنسية لإصلاح إشكالية الذاكرة، تتضمّن المبادرة، دوما بالقرارات وباستراتيجية القطرة قطرة، في الوقت الذي تشاء وفق إرادتها من دون الالتفات إلى مطالب الجزائر في حزمة قراراتٍ مرتبطةٍ بالذاكرة، يجب أن تنطلق من ثلاثية الاعتراف/ الاعتذار/ التعويض، ثم إجراءات تسليم الأرشيف الكلي للدّولة الجزائرية العثماني والاستيطاني، كله، مرّة واحدة، من دون نسيان جماجم الشُّهداء من مجاهدي الفترة الأولى للمقاومة الجزائرية للاستيطان الفرنسي (1830 - 1870).
لا تنتبه فرنسا إلى أنّ الجانب الجزائري جاهز بتلك الحزمة من المطالب، لأنّه ما فتئ يردُّدها، وساهمت الأعمال الكبيرة لمؤرخين كبار، خصوصا عميدهم أبي القاسم سعد الله، في الإشارة إليها على مستويين، بصفة خاصّة، التأريخ للدولة الجزائرية الأميرية (الأمير عبد القادر) ثم التّدمير الثقافي الذي طاول الجزائر من جرّاء قرن وربع القرن من سياسات الاستدمار الفرنسي، وفق لغة البشير الإبراهيمي، شيخ جمعية العلماء الجزائريين، رحمه الله. وطبعا، تسهم كلا المقاربتين، في تدمير الخطاب السياسي الفرنسي، في إنكار وجود أمة جزائرية أو إنكار جرائم فرنسا الاستيطانية في الجزائر، ما سيقلل من قيمة تلك الاستراتيجية ويبدد تفاصيلها.
وحدة "الحرب النّفسية"، كان من أغراضها زرع البلبلة في صفوف المجاهدين الجزائريين وجيش التّحرير الوطني
الجانب الأخطر في القرار/ المكيدة الفرنسية عدم الإشارة إلى أنّ تلك الفترة من الحرب التحريرية الكبرى، وفق أعمال مؤرّخين فرنسيين وبعض كتابها العسكريين، شهدت إنشاء وحدة داخل الجيش الفرنسي المنخرط في "حرب الجزائر"، وفق خطاب السلطة الفرنسية آنذاك (كانت تطلق عليها أحداث شمال أفريقيا، ثم تحوّلت إلى تلك التسمية المذكورة، إمعانا في التنكّر للحرب، آنذاك، على المستوى الدُّولي)، تمت تسميتها وحدة "الحرب النّفسية"، من أغراضها زرع البلبلة في صفوف المجاهدين الجزائريين وجيش التّحرير الوطني، ومن بين الأساليب المستخدمة تزوير وثائق وشهادات في محاولةٍ لشق صف الثّورة على المستويين، السّياسي والعسكري، وهي الوثائق التي قد تظهر بعضها، ولا يمكن التمييز بينها وبين الوثائق الأخرى ذات الطّبيعة التاريخية، ما قد يلطّخ أسماء بعض أبطال الثورة التّحريرية، أو يوجد بلبلة في ذاكرة من سيطّلع على مضمون تفاصيل ما تحمل من كشف لحقائق مزوّرة ومدسوسة على الثّورة. وممّا تتضمّنه تلك الوثائق من تفاصيل، فيما دسّته تلك الوحدة، وفق بعض الكتّاب والمؤرّخين الفرنسيين، تمكّنت فرنسا من إحباط عملياتٍ لتهريب الأسلحة إلى المجاهدين، كما تمّ القيام ببعض الاغتيالات لقادة، والقبض على آخرين، بل وصل الأمر إلى ادّعاء أن بعض التّصفيات للخونة تم بإيعاز من قادة وحدة الحرب النفسية أو من خلال ما قامت بتزويره من وثائق.
بالنتيجة، لا يعد فتح هذا "الأرشيف الملغم"، في طياته، خطوة في مسار إصلاح الذاكرة بين البلدين، بل يحاول زجّ الجزائر في إشكالات تاريخية داخلية من جرّاء عمل استخباراتي دقيق كانت المشرفة عليه الدولة الفرنسية بشقيها السياسي والعسكري. وهي تأتي، الآن، بأجزاء المكيدة، السياسي، الاستراتيجي ثم الاستخباراتي، في لبوسه القضائي - التاريخي، للإيحاء بأنّ إشكالية الذاكرة، بالنسبة للجانب الجزائري، هي مشكلة، وليست حلاّ، وللاستمرار في المراوغة والتماطل المعهودين على الدولة الفرنسية في التوصل معها إلى ثلاثية: الاعتراف/ الاعتذار/ التعويض.
تلك هي تفاصيل المكيدة الفرنسية، والتّي، على الجانب الجزائري الانتباه لها، وردّها في نحرها بمقاربة استراتيجية تعمل على تفكيك الخطاب السّياسي الفرنسي والبناء/ التركيز على منظومة تفاوضية متكاملة تربط بين رباعية تتضمن: السياسي/ الاستراتيجي/ الاقتصادي/ الأمني، لأنها سبل مواجهة مقاربةٍ فرنسية ترفض الندّية، وتعوّل على المماطلة، على الدّوام.