مكّاوي سعيد يواصل دفن أسراره
تراه وكأنه نفض يديه من تراب الدنيا كلها استعداداً للجلوس على المقهي لشرب القهوة أو الضحك، وقد نفض عن نفسه عامداً "خيمة المثقف وأدواته وانتظاره للمستحيل". كان مكّاوي سعيد وكأنه ينتظر فقط ذلك الديك الذهبي الذي يؤذّن لصلاة الظهر على كرسي من كراسي المقهى، ثم يأتيه هو خصيصاً كي يقول له: "لقد وعدتك ببيضة ذهبية في يوم ما".
كان مكّاوي يداعب حظوظه التي تأخرت من بعيد من دون أن يزاحم أحداً، وكأن مكّاوي سعيد كان يأخذ هذا الديك الذهبي إلى بيته من على المقهى في آخر الليل، وهناك يجود عليه الديك بالذهب، ثم يكتم مكّاوي عن الأصدقاء أسرار الديك وتلك البيضات التي نالها منه، يعود مكّاوي سعيد بالطبع، رغم كل هذا الذهب، إلى المقهى قبيل الغروب أو بعده بقليل أو كثير، وفقاً لحال أسعار الذهب الذي باعه في الأسواق، بعد ما جاد عليه الديك به.
مرّة يعمل في فيلم تسجيلي ومرّة ينهي مجموعة قصصية أو رواية ومرّة يحصل على جائزة من هنا أو هناك، إلا أن ديكه الأثير، الذي لا نراه أبدًا، ظلّ في مكانه المفضل له، وهو المقهى فقط، رغم اتساع كل مهرجانات القاهرة، وندواتها، ومنتدياتها، وصخبها، ودروبها التي يعرفها مكّاوي شبراً شبراً، وقد كتب فيها كتاباً بديعاً عن شخصياته التي حاول جاهداً طمس معالمها عامداً، في شكل بورتيريهات، من أمتع ما كتب عن القاهرة. وللأسف، لم يتابع الكتاب نقدياً بشكل يستحقه، وكأن البورتيريه ليس أدباً يستحق من الناقد نظرة عطف، أو كأن القاهرة تحسُد مكّاوي على ذلك الذهب الذي يناله سرّاً من ذلك الديك.
حالة من الوجد في انتظار الأسرار مع اللامبالاة أيضاً بالنتائج، وكأنه يعيش مشروع عبثٍ تأخر مستعيناً عليه بالمقهى والضحك وكتابة مقتنياته "مقتنيات وسط البلد"، وهو كتابه الجميل، الذي كنت أعرف منه شخصيتين معرفة مؤكّدة، وكم كانت حيرة مكّاوي الذي دارى عامداً توضيح أسماء مقتنياته كي يحار القارئ في مصادره، أي بئر مقتنياته، وأحدهما كانت سيدةً تتخلص بجنون من كل مقتنياتها المنزلية، مهما كانت غالية، وتنوي السفر أو تخطّط له. وفي يوم دعت الأصدقاء إلى حمل أشياء المنزل كافة، ثم رحلت إلى أوروبا من ثلاثين سنة، وقد كانت كاتبة قصة موهوبة، إلا أن جنونها تركّز في السفر والاستغناء، حتى عن المنزل والوطن، كلّمته عنها، فاندهش جداً لكشف أسرار مقتنياتها، فقلت له اسمها، فنظر إليّ بإمعانٍ شديد، ثم انتقلت إلى شخصيةٍ أخرى في الكتاب، وهو ذلك الرجل الهادئ الذي يجلس في صمت بالقلم الرصاص والأستيكة في "مقهى الحرية". يشرب الشاي أو القهوة في صمت دائم ويكتب باهتمام شديد، وقد تعجّب مكّاوي مني بعد ما حكى لي رحلة هذا الرجل في شبابه إلى العراق، وقد كان في شبابه، في السبعينيات، مديراً لفرقة فنون شعبية كبيرة هناك، وأخيراً عاد إلى مصر، وها هو يضع أصابعه المحترفة في سيناريوهات أفلام ومسلسلات في صمت، ولا يكتب عليها اسمه أبداً، بل يأخذ أجره في صمت من المنتج ويرحل.
كان مكّاوي حكاية عجيبة تداري صفحاتها المجهولة في ذلك الضحك على المقهى، والوحدة التي تحوطها الأسرار من دون أن يكشف سر أحد أو يتباهى ببطولة زائفة في مسيرة العشق، كما يفعل المثقف صاحب الفضائح والغرور والغزوات التي تدوّي في وسط البلد، كان مكّاوي حانياً على أسرار حبيباته كقدّيس بوذي جاء من هناك، ولم يفارق المقهى، جلوس على المقهى في حالة يومية، ومتابعة للعالم بعيون صاحية، وكتب تصدُر متواترةً من هنا أو هناك. والرجل كما هو، لا يتململ ولا يتوجع ولا يشكو، ولا يكيد لأحد ولا يداعب أي سلطة ولا يعاركها أيضاً، فقط سلطة نفسه حاضرة دائماً بلا مباهاة أو تنطّع تتخللها ضحكاته، ورفقة بسيطة حوله، تتغيّر أحياناً بفضل "مقتنياته"، إلا أن طاولته دائماً تغيّر "الزهر"، والضحك أيضاً، من غير أن يفارق المقهى والأدب ووسط البلد، وكأنه خلق كي يحرس وسط القاهرة ماشياً أو في جلساته.
يرحل إلى بيته حينما تميل الشمس ناحية الغرب آكلة ساعتين من بعد الظهيرة، ويعود إلى المقهى وهي تجرّ آخر أذيالها للنهر من دون أن تفارقه الابتسامة وتألق الحضور، حتى قيل فجأة لقد تأخر مكاوي عن موعده، كان قد انتقل إلى مكان آخر، تاركاً لأول مرة المقهى كاملاً للأصدقاء والعزاء فيه، كانت حالة حزينة بلا مكّاوي لأول مرّة.