ملاحظات سورية على مؤتمر بروكسل
اختُتم مؤتمر بروكسل الثامن لدعم سورية ودول الجوار نهاية الشهر الماضي (مايو/ أيّار)، ولم يبرز من النقاشات، التي خاضها من يُفترض أن يُمثّلوا شرائح المجتمع السوري في داخل البلاد، وفي الشتات، سوى الرقم الأخير الذي يُجمّل حجم المساعدات التي تعهّدت بها الدول المشاركة للشعب السوري، وللمجتمعات المضيفة للاجئين. من الجوانب الإيجابية للمُؤتمر أنّه يساهم في جمع الأموال من الدول المانحة لدعم الجهود الإنسانية والتنموية، ويُعزّز التنسيق الدولي بشأن الأزمة السورية بين الفاعلين ومُنظّمات الأمم المتّحدة والمُنظّمات غير الحكومية (NGO). كما أنّه يُبقي الأزمة السورية في دائرة الاهتمام الدولي، ويكاد يكون المنصّة الوحيدة المُتبقّية، التي تجمع أطيافاً واسعة من الشعب السوري تحت سقف واحد، بعد 13 عاماً من الصراع. لكنّ هذا الحدث المُهمّ بدأ يُختزَل، شيئاً فشيئاً، حتّى تحوّل عمليةَ توزيع حصص وأرباح (Dividend) بلغة البورصة. وبشكلٍ أدقّ، هو اللحظة التي تسبق ذلك، إذ يكون الجميع في تنافس محموم لنيل النصيب الأكبر. وتفتتح دول الجوار المشاركة في المُؤتمر عملية المنافسة.
الرقم الثاني المُلفت في المُؤتمر، بعد مبلغ المساعدات، عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار. فهو بحسب المُتحدّثين 8.5 ملايين سوري؛ نحو 1.5 مليون في مصر، بينما يبلغ عدد اللاجئين السوريين في العراق حوالي نصف مليون، وفي تركيا، العدد الأكبر، ويصل إلى 3.7 ملايين، ونحو 1.5 مليون في لبنان. أمّا الأردن، فقد ذكر وزير خارجيتها أيمن الصفدي، وجود نحو 1.3 مليون لاجئ سوري. وإذا صدقت الأرقام، وأضفنا إليها حوالي مليون في أوروبا، ومعهم المُغتربون، يُصبح نصف الشعب السوري خارج البلاد.
شاركَ ممثلو الدول المذكورة في المُؤتمر في الحديث المُكرّر عن الأعداد الكبيرة للسوريين الذين يُشكّلون ضغطاً كبيراً على الموارد والخدمات العامة، ممّا يؤدّي إلى تحدّيات اقتصادية واجتماعية كبيرة مثل ارتفاع مُعدّلات البطالة وانخفاض مستوى الخدمات. ودعوا إلى زيادة الدعم الدولي والمساعدات المالية لمواجهة هذه الأعباء، مُؤكّدين أنّ الدعم الحالي غير كاف. كما شدّدوا على أهمية توفير الظروف الملائمة لعودة اللاجئين السوريين بشكل "آمن وكريم وطوعي"، في وقت تشارك فيه دولهم (بنسب متفاوتة) في الإعادة القسرية. يخرجُ عن السياق المعهود ما جاء به وزير الخارجية اللبناني، عبد الله بو حبيب، حين طالب بنحو مائة مليار دولار تعويضاً عن الأعباء التي تحمّلتها بلاده نتيجة استضافة اللاجئين، وتحذيره من "الانفجار الكبير"، ومطالبته بالداتا من مفوضية اللاجئين، وهي أزمة لا تزال مُستمرّة بين الطرفَين.
على الجانب السوري، هناك كثير لقوله. فجلسات المُنظّمات غير الحكومية (NGO) امتدّت أياماً، وتشابه طرحها وتكرّر، ولم تقدّم شيئاً يختلف عمّا نُوقش خلال ثمانية أعوام من عمر المُؤتمَر. ويبرز سؤال حقيقي: هل تمثّل هذه المنظّمات حقّاً المجتمع المدني السوري؟... عند سبر أسماء وعناوين ومجالات عمل المُنظّمات المشاركة، لا تجد قائمةً تُعدّدها، ولا معايير لاختيارها وترشيح مُمثّليها، وكلّ عام يكون ظهورها في القاعة مفاجأة لكلّ متابع للشأن السوري عن كثب. وفي نظرةٍ سريعة على 23 ساعة من الفيديو، على موقع المجلس الأوروبي، الذي يسجل كلّ الجلسات، لا تجد ما يمكن الوقوف عنده.
تضغط معظم المُنظّمات المشاركة باتجاه تخفيف العقوبات على النظام السوري، بحسن نيّة أو بسوئها، والهدف المعلن رفع المعاناة عن الشعب السوري
من المواضيع المطروحة، تناولت الجلسات خريطة طريق لبيئةٍ آمنة، وإعادة ضبط العملية السياسية، ودور المياه في تحقيق السلام في شمال شرق سورية، وتحدّيات تحويل المساعدات وحلولها، وقضايا الصحّة وحقوق الإنسان، ودور التعليم في بناء الديمقراطية والسلام، وإعادة إدماج العائدين. كما طُرِحَ التعافي المُبكّر، وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة، وأزمة الرعاية الصحّية، و"فكّ شفرة مفهوم البيئة الآمنة"، وحقوق الإسكان والأرض، ووجهات نظر النساء بشأن شكل الدولة السورية المُستقبلي. تحت هذه العناوين المُنتقاة، لم يظهر نقاش مُهمّ، وحتّى بعد انتهاء المُؤتمَر لا نعرف ما مصير هذه النقاشات، حتّى مع سطحيتها وتشتّتها، فكلّ عام بعد إغلاق أبواب المُؤتمَر تنتهي عاصفته، وعلى مدى عام، لا نقرأ سوى تقرير المفوّضية عن التعهدات وتوزيعها، ومدى التزام الدول بما ألزمت نفسها به تجاه السوريين ماليّاً.
في جلسة عن المُعتقَلين، وعلى الرغم من الاعتراف بأهمية دور الضحايا المُفرَج عنهم، لم يتضمّن النقاش مشاركة مباشرة منهم. وفي ساعة أخرى، نوقشت مشاكل السوريين في تركيا، مع غياب ملحوظ لمُمثّلي المُنظّمات غير الحكومية التركية عن المناقشات، أو حتّى عن فعّاليات المُؤتمر نفسه. غياب مُنظّمات الدول المُستضيفة للسوريين يفوّت فرصة الاستفادة من مجموعة ضغط مُهمّة على الحكومات لتخفيف الانتهاكات، وتعزيز الحوار بين اللاجئين والمجتمعات المُستضيفة، وينطبق هذا على لبنان، والأردن، ومصر، والعراق، وغيرها.
تضغط معظم المُنظّمات المشاركة باتجاه تخفيف العقوبات على النظام السوري، بحسن نيّة أو بسوئها، والهدف المعلن رفع المعاناة عن الشعب السوري. وفي ردّ على أحد الأسئلة من رئيس مُنظّمة سورية، قال نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، إيثان غولدريتش، إنّ الفساد وعدم كفاءة النظام السوري هما الأسباب الرئيسية للأزمة الاقتصادية في سورية، وليس العقوبات وحدها. وأشار إلى أنّه عند العثور على حالات امتثال زائد (over-compliance) للعقوبات، تُؤثّر سلباً في الشعب، فإنّها تعدّل. في معظم النقاشات، أعرب المشاركون عن قلقهم بشأن البيروقراطية وعدم التوازن في توزيع المساعدات، مشيرين إلى أنّ بعض المناطق تتلقّى اهتماماً ودعماً أكبر من مناطق أخرى. وتظلّ هذه المداخلات ضمن سياق أحقّية الدعم، ولمن يجب توجيهه، وأيّ المُنظّمات أولى به.
التركيز على المساعدات الإنسانية في سورية من دون الضغط الفعلي لإيجاد حلّ سياسي شامل يظلّ معالجة سطحية للأزمة
تركّز أجندة المُؤتمر، كلّ عام، كثيراً على الحلولِ المُؤقّتة والإنسانية من دون التطرّق بجديّة إلى الحلول السياسية للأزمة السورية. والمشكلة في سورية ليست فقط إنسانية، بل هي سياسية بالدرجة الأولى. لذا، فإنّ التركيز على المساعدات الإنسانية من دون الضغط الفعلي لإيجادِ حلّ سياسي شامل يظلّ معالجة سطحية للأزمة. ونعود إلى المُنظّمات، فهي الحاضر الأبرز بعد المانحين. بينما تُناقَش سبل دعم السوريين، يثير الأخيرون أسئلة عنها، فهي تتبع رقابة ماليّة في صرفها، وتُرفَع تقارير للجهات المانحة، إلا أنّ هذا لا يُحقّق حتّى الحدّ الأدنى من الشفافية والمساءلة. وخلال سنوات الحرب أوجد ذلك شرخاً كبيراً بين القائمين على المُنظّمات والشعب السوري، وبات يُنظر إليهم مستفيدين من المعاناة لا داعمين ومساندين في زمن الشدّة. وهناك انتقادات كثيرة لعملهم، أدناها غياب التنسيق الشامل، وأعلاها الفساد.
طرح مُمثّلو المُنظّمات خلال المُؤتمر إشراك المجتمع المدني في المفاوضات السياسية، لكن، قبل دعم هذه الخطوة يجب حلّ أزمة حقيقية تقوم على سؤال: هل تُمثّل المُنظّمات غير الحكومية (NGO) المجتمع المدني السوري؟ قد يكون الجواب عند معظم السوريين لا، فهي تمثّل الجهات التي تُموّلها في طرف المعارضة، وفي طرف النظام هي الدائرة المحيطة بأسماء الأسد. نحتاج إلى تعريفٍ للمجتمع المدني السوري، وما دور المُنظّمات فيه. وإذا ما كانت هي من يمثّله، فيجب أن تلتزم بمعاييره، وأولها، أن تكون أقرب إلى المجتمع السوري، بالصدق والشفافية. ويجب أن تكون عملية التمثيل والاختيار واضحة للسوريين، وأن يحصل نقاش قبل المُؤتمر بشأن من يحضر، وما هي أجندته، ومن يُمثّل، وإلا، سيستمر المُؤتمر في تكرار النهج الفاشل نفسه، ويبقى منصّة لجمع التبرعات، وفرصة للحصول على فيزا "شنغن"، وتقديم اللجوء بعدها، كما فعل عديد من الحاضرين هذا العام.