ملامح جديدة لـ"سورية المفيدة"
تعرّضت الأراضي السورية قبل عقد تقريباً لهجمات عنيفة من فصائل معارضة مسلّحة، فضلاً عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وخرجت مساحات شاسعة من الأراضي السورية من سيطرة النظام الحاكم في دمشق. حينئذ، أعلن الرئيس السوري بشّار الأسد أن بعض المناطق السورية أقلّ أهميةً من غيرها، فلا مانع من تخصيص موارد الجيش السوري وجهده للمناطق الأكثر أهمية، ووصف الأسد ذلك الطرح بأولوية "سورية المفيدة". وكان مفهوماً بالطبع أنه المستفيد، لكنّه لم يوضح وقتها (ولا لاحقاً) طبيعة تلك الفائدة.
بعد حديث الأسد والتطوّرات الميدانية المتقاطعة، جُمّد الموقف العسكري، وثُبّت التموضع الميداني لكلّ طرف، مع محاولات محدودة لحلحلة الموقف وتغيير بعض المراكز، من دون تأثير حقيقي في موازين القوة على الأرض. وسياسياً، شهدت سورية تمثيلياتٍ داخليةً ومظاهر شكلية مثل الانتخابات، ومرّرت الأطراف الخارجية الوقت عبر مباحثات وجولات تفاوض متكرّرة بصيغ مختلفة، أكثرها أهمية ما عُرف بصيغة أو آلية أستانة. غير أن تغييراً حقيقياً في الواقع السياسي لم يحدُث، وهو ما يمكن اعتباره نوعاً من الغطاء السياسي للوضع الميداني المُجمَّد. والعنوان الذي يمكن ضمّ هذه التطورات كلّها فيه، هو أنّ سورية صارت بلا سيادة وبلا سيطرة كاملة من جانب أيّ طرف، وإنّما تحوّلت مقاطعاتٍ مختلفةً في الحجم والقوة والموارد.
ما يجري حالياً من تقطيع في سورية هو استئناف لعملية التقسيم التي توقّفت فجأةً، وإضفاء الطابع الرسمي عليها، كما لو كانت الأعوام القليلة الماضية وقتاً مستقطعاً من ذلك المسار نحو تقسيم سورية بين دويلات، لكن ليس بصورة مطابقة للمسار السابق بحذافيره، وإنّما بتعديلات جغرافية ستنجم عنها بالضرورة اختلافات سياسية واستراتيجية عما كان متوقّعاً حين تحدّث الأسد عن سورية المفيدة.
تتمثل "سورية المفيدة"، التي كان يعنيها الأسد، في شريط يمتدّ من الحدود اللبنانية غرباً وصولاً إلى اللاذقية شمالاً، وهو تحديد مفهوم لاعتباراتٍ طائفية بالأساس، بخاصّة بعد أن جرت عمليات تطهير عرقي وإعادة تشكيل ديمغرافية في تلك المناطق. أمّا ما قامت به الفصائل المسلّحة المتمثّلة أساساً في هيئة تحرير الشام، فهو عملية تفكيك لذلك التحديد الجغرافي أو التعريف الخاص بسورية المفيدة التي كان يعنيها الأسد، وربّما تغيير لذلك التحديد كلّيةً، فبعد الاستيلاء على حلب وحماة ثمّ حمص، لم يعد من الممكن احتفاظ نظام الأسد بدمشق.
ومن اللافت أن سقوط العاصمة تمّ بسهولة مريبة، فقد هرب بشّار الأسد، وانهارت قواته، وغادرت مواقعها الحيوية، وتخلّت عن أماكن سيادية، مثل المطار ومؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، من دون مقاومة. ولم يكن ذلك ممكناً بفضل القوة التسليحية لفصائل المعارضة أو كفاءتها العسكرية فقط، رغم ما تتلقاه من دعم وإمدادات بالسلاح والتمويل والمعلومات، فليست كلمة السرّ قوة أعداء الأسد، وإنّما هي الضعف الذاتي عسكرياً وولائياً وسط صفوف جيشه، وإدراكه ذلك متأخّراً، حتى إنه استدراكاً للموقف ضاعف رواتب الجيش منذ أيّام، أي بعد فوات الأوان.
وممّا عزّز الانهيار السريع السلس أن البيئة المحلّية في مختلف المدن التي كانت خاضعةً لسيطرة الأسد كانت مهيَّأة تماماً لذلك، وتتطلّع إلى التخلّص من نظامه، خاصّة بعد ما تعرّضت له تلك المناطق خلال أعوام الجمود العسكري من تدمير وتهجير وتطهير عرقي.
خارجياً، خُذِل الأسد من أطرافٍ حليفةٍ له، وقوبل بحياد سلبي من أطراف أخرى مستفيدة من سقوطه، ومن تشكيل خريطة جديدة لسورية المفيدة. عدّل مفهوم "سورية المفيدة" إلى "سورية جديدة"، إذ تنقسم سورية إلى "سوريّات" عدّة، كلّ منها مفيدةٌ لطرفٍ ما. أمّا عن ملامحها وطبيعتها والأطراف المستفيدة منها، فلهذا حديث آخر.