"ممرّات هشّة" للحبّ في غزّة
نعرفُه مدخل مستشفى الشفاء في غزّة، نحن القاعدين قدّام التلفزيونات، وفينا الغيظُ إيّاه، نتفرّج على المذبحة. نعرفُها بوّابته، فقد صار من مفردات أيّامنا، نحن البعيدين عن هناك، وعن الدم الذي تزيحُه الشاشةُ عن عيوننا. أمام المدخل، صادفَ الجارُ الشاب، صيّادُ السمك، من أحبّها قبل سنوات، ثم لم يلتقيا، ياسمين، طبيبةً بمريولٍ أبيض، رآها تخرُج من بوابة المستشفى. "تجمّدت، تجمّد، تجمّد المكان، تجمّد الوقت، مثل مقطعٍ ساكنٍ من مشهدٍ سينمائيٍّ اختار المخرجُ كيف يواصله". يحدُث هذا في رواية عاطف أبو سيف "ممرّات هشّة" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2023). لحكايتهما مسارُه كما لحكاية هدى، الثمانينيّة، التي توفّي زوجَُها الثمانينيُّ، للتوّ، وهو قاعدٌ في دكّان في الحارة في المخيّم. أخبرها الجارُ الشابُّ بالنبأ المباغت، فكانت صدمتُها مزدوجةً، أنها فقدتْهُ وأنه لم يُخبرها صباح ذلك اليوم بمغادرته المنزل، لم يلوّح لها، لم يتحدّث إليها، وكانت نائمة. تستدعي ذكرياتٍ كثيرةً معه، منذ تحابّا، قبل نحو ستين عاما، لمّا كانا طالبيْن في جامعة القاهرة. أينع الحبّ الذي لم يترُكهما زواجا وأبناءً وأحفادا، ونهرا من الذكريات، عبَرَ في ممرٍّ هشّ، في ذلك النهار الأخير، لأنه خلا من تلويحةٍ أو همسة حبٍّ أو قبلة. أما حبّ الجار الشابّ الذي تعرّف إلى ياسمين في نابولي، فقد عبَر في ممرّاتٍ هشّةٍ كثيرة، ولم تُسعفه تلك المصادفة التي أحيتْه، عند مدخل مستشفى الشفاء "هنا بدأ تاريخ الحبّ، من ذلك اليوم يبدأ عدّ السنتيْن اللتيْن استمرّت طوالهما العلاقة".
لا اسم للجار الشابّ، الأربعيني، في الرواية، وهو الذي يصير جليس هدى، ناظرة المدرسة في زمنٍ مضى، في منزلها الذي تسقي فيه الأشتال وأشجار الحديقة. ولا اسم للمخيّم في قطاع غزّة، والذي تعبُر منه وفيه الحكاياتُ والذكرياتُ والقصصُ التي تتتابع "من سرداب الماضي الطويل"، ومن حاضرٍ لا يتعيّن في النصّ زمنا معروفا، وإنْ يبدو أنه بُعيْدَ وصول ياسر عرفات إلى هناك، وإنْ ثمّة ما يوحي إلى امتدادِه إلى "بشاعة القصف والحصار والتدمير". المخيّم في شمالي غزّة، لجأت أسرةُ هدى إليه من يافا بعد النكبة، كما أسرة الزوج المتوفّى للتوّ، الحبيب الباقي في الحشايا، على الرغم من تلويحة حبٍّ غابت في الصباح الأخير. لك أن تخمّن أنّ المخيّم هو جباليا، لغير سببٍ، ولك أنْ تفترضَ أن إخفاء الاسم يعودُ إلى مكر الروائي، وليس الرواة الذين يسرُدون، وقد هيمَن صوتا هدى والراوي العليم، وتقاطََع معهما صوتُ الجار الشاب، وقليلٌ من صوت ياسمين. نعبُر في ممرّات المخيّم في أولى صفحات النصّ مع عبورِنا في ممرّات حياة هدى، طفولتها ثم دراستها الجامعية، ثم حبّها زهدي ثم زواجهما، وفي ممرّاتٍ أخرى تتشابك وتلتقي مع غيرِها تأخذُنا إلى أسرتيْهما، إلى يافا النائية في الذاكرة، إلى بدايات المخيّم ونموّه وتمدّد العائلات، لمّا "البيوتُ صارت تكبُرُ بعشوائيةٍ لا حدود لها".
نحن البعيدون عن غزّة، اللصيقة بالأعداء في وصفٍ عتيقٍ من محمود درويش لها، نتفرّج على أنقاضٍ في مساحاتٍ منها بلا عدد. تُرينا شاشاتُ التلفزيون الحُطام تلو الحُطام، ونحن نقرأ على الشاشات أعداد الشهداء التي لا تزيدُ إلا لتزيد. غير أن في رواية عاطف أبو سيف بعضَ ما كانتْه غزّة، فضاءً للقصّ الذي يتراسَل بإيقاعٍ رهيف، "الشاطئُ يعجّ في الصيف بالمصطافين، معرض الكتاب في الشاليهات، مقهى ديليس، الاستراحاتُ على البحر، مقهى الكروان، محلّ فلافل أبو طلال، أيس كريم كاظم، مطعم حيفا، مطعم السماك، الجندي المجهول، الجاليري، برج الباشا، البرج الإيطالي، أبراج الكرامة، حي الندى". ماذا تبقّى من هذا كله، وكثيرٍ غيره، في غضون جولة القتل والتدمير الهوجاء الراهنة؟ يُحدّث الجارُ الشابّ هدى: "إن غزّة كانت مختلفة، دائما غزّة تفاجئنا. المدينة التي عاشت كل عصور التاريخ ظلّت طوال الوقت مسرحا لسنابك خيلِه. الحروبُ أرهقتها. في ذلك الزمن، الزمن القصير جدا، الذي لم يمتدّ لأكثر من ستّ سنوات، كانت غزّة شابّةً يافعةً تستقبل الحياة".
عاطف أبو سيف أحدُ ساردي غزّة وفضاءاتها، أحدُ الحكّائين عنها، وعن ناسِها، منذ نحو عقد، وأن تقرأ روايته العاشرة "ممرّات هشّة" في لحظة الحرب المجنونة الراهنة يعني أن تغادِر إلى أزمنة ناس غزّة عندما يتذكّرون الهجرة من فلسطين أخرى، وعندما يعشقون، وعندما يغتبطون بالمشمش والسمك والسماء الصافية (متى تعود صافية؟)، وعندما يأنسون إلى الحكايات عن الحب، كما الذي يتعثّر بين الجار الشاب وياسمين، وكما حبٌّ آخر تستدعى منه الثمانينيّة هدى مذاق القبلة الأولى، حمى الله ثلاثَتهما في أتون المذبحة.