ممنوع الهروب من الجحيم اللبناني
"الجحيم اللبناني" معتَرف به رسمياً، ومن أعلى سلطة، رئاسة الجمهورية. والعذاب فيه ليس سماوياً، ولا بالتالي عادلاً. ولا هو قصاصٌ نازل على ساكنه، يدفع فيه ثمن ذنوبه. إنما هو من صنع البشر، أي أنه غير عادل، يعاقب الأبرياء على ذنوبٍ اقترفها أقوياء المافيا الحاكمة.
ولا حاجة هنا إلى إعادة وصف كل ما يتكبّده سكان هذا الجحيم، أو كل ما يجنيه مافيويو السلطة من مال وشكيمة عند طلوع كل شمس على برّه. المهم أن ناراً جهنمية تلسع اللبنانيين يومياً بلفحاتها الحارقة، وهي حتى هذه اللحظة بصدد الإشراف على تحويلهم إلى عدم، إلى لا شيء، إلى صِفر أو فراغ. وفي أفضل الأحوال، إلى دروعٍ بشريةٍ في حرب المافيا الحاكمة للبقاء على الوجود. جهنم أبدية، لا وجود فيها لمطهر، للسماح عن الذنوب، لفوائد العقاب ودروسه .. جهنم مفتوحة على امتداد الزمان، مكتوبة على جبين لبنان منذ ولادته، كأنها قدره. وما جنّاته المتقطّعة سوى هفْوة، لم يلبث القدر أن صحّحها بنيرانٍ أكثر ارتفاعاً، تغطّي السماء بسوادها.
هذه المرّة وصلت هذه النيران إلى قلوب اللبنانيين، وحوَّلتها إلى رماد. وقال غالبيتهم، "فلنرْحَل". وكان النزوح التاريخي، الذي لم يعرفه لبنان منذ سفر برْلك والمجاعة الكبرى، والحرب العالمية الأولى. خلال عامين فقط، فرغ لبنان من زينة شبابه وأطفاله، وربما كهوله. وكان يتطلب هذا الهروب توفّر إمكانات خاصة: فيزا أو هجرة نهائية. سعر بطاقة السفر. وجود عقد عمل، أو علاقات تؤمّنه. ولا بأس إن لم يكن متاحاً، فالمهم النجاة بما تبقى من الجلد غير المحترشق.
درب الهروب من جهنم، هو درب المحظوظين من المواطنين
ولكن قبل كل شيء، يجب الحصول على جواز سفر. وهذا الأخير شكّل "ضغطاً" هائلا على الأمن الداخلي، خلال هذين العامين الأخيرين، حتى باتَ عاجزاً عن إصدار المزيد، فأعلن عن "عدم تمكّن الدولة من إيفاء قيمة العقد للشركة المتعاقدة معها لتأمين الجوازات". هكذا توقفت المديرية عن إصدار جوازات السفر لمن يسمّون "مواطنين بسطاء".
هذا كله ونحن ما زلنا نتكلّم عن واحد من دروب الهروب من جهنم. وهو درب المحظوظين من بين أولئك "المواطنين". بجيوبهم وعلاقاتهم ومهاراتهم. أي، بمعنى أدقّ: كلما كانت هذه الثلاثة متوفرة، سهل الحصول على إذن شرعي بالهروب من جهنم. شرعي، وأحياناً "مضمون" الوجهة.
ولكن ثمّة مدينة - منطقة في لبنان خارجة تماماً عن هذه المقاييس، المتواضعة أصلاً. طرابلس الشام، شمال لبنان. حيث الجحيم فيها أشد استعاراً من أي منطقة أخرى. فقر وتهميش وفوضى منقطِعة النظير. ثلاثي يوظفه سياسيوها ونوابها، أصحاب المليارات، لإبقاء أهلها على المزيد. لتكون طرابلس صندوق بريد أمني، ذريعة أمنية وتفجيرات، وموقوفون سنوات من دون محاكمات .. ومهرّبون يسرحون ويمرحون على الحدود البرّية، بين سورية لبنان، وعلى الحدود البحرية. شبكة من المهرّبين مترابطة، متصلة، منسّقة فيما بينها، تتمتّع، ومنذ سنوات، بتغطية سياسية من الحكّام وتغاض من أجهزتهم الأمنية. وكانت آخر "إنجازات" هذه الشبكة تسهيل رحلة شبابها إلى العراق للالتحاق بتنظيماتٍ إسلاميةٍ عراقية متطرّفة.
يلهث الطرابلسيون وجوارهم الشمالي، للنزوح عبر البحر، هم الذين ضاقت بهم سبل الهروب الشرعي من جهنمهم
منذ عامين، يلهث الطرابلسيون وجوارهم الشمالي، للنزوح عبر البحر، هم الذين ضاقت بهم سبل الهروب الشرعي من جهنمهم. يدفعون تكلفته من لحم أكتافهم، بالدولار، يجمعونها بدموع العين، ويهرعون إلى قوارب بدائية، بلا سترات واقية، كالمجانين، سعياً إلى إطفاء النار التي اشْتُعِلوا بها. ونحن لا نعلم كم من القوارب انطلقت من هناك خلال هذين العامين، ونجحت في الوصول إلى ما هو جنّتهم، أو ربما مطهرهم. ولكن المؤكّد أن ثمة تجربتين كارثتين، حصلتا خلال العامين الماضيين، أدتا إلى غرق قواربهم وابتلاع البحر عشرات من جثثهم، والبحر شاهِدهم..
وكما يحصل مع التهريب البرّي، حصل مع القوارب الهاربة من الجحيم. تتواطأ الأجهزة الأمنية مع هؤلاء المهرِّبين، وتسهّل خططهم. وبعد ذلك، تنقض على الشباب المهرَّبين بصفتهم إرهابيين محتملين. وترميهم في السجن ومن دون محاكمة، وتطلق سراح الذين هرّبوهم .. كذلك تفعل الأجهزة الأمنية مع القوارب الطرابلسية "غير الشرعية": تعرف من يغطّي المهرّبين. يسرحون ويمرحون متمتعين بتغطياتها. وعندما تهجم على قارب غير شرعي، بغية استعادته إلى الشاطئ، توقف المهرّبين، تضعهم "رهن التحقيق"، وبعد ذلك تطلق سراحهم، أي أن السلطات الأمنية الساهرة على مصالح السلطات الحاكمة تترك الذين ينفذون مشاريع الهروب أحراراً، ينتزعون من الفقراء آلاف الدولارات أخرجها هؤلاء من أرواحهم، وبعد ذلك تعرقل عمليات الهروب، أو تسهّله، بما لا نعلمه .. وتكون النتيجة ما حصل قبل أيام في القارب المأساة، الفاشل، الذي أضاع عشرات الأرواح، وأنقذ وانتُشل أو لم يُنْتشل..
كان القارب المحمَّل بثمانين هارباً، مع نساء وأطفال، يقترب من المياه الدولية، فتصدّى له الجيش اللبناني، وغرق القارب بما حمل، فقُبض على المهرّب، ثم أُطلق سراحه، وغرقت طرابلس في الحزن والدموع، وقام الجيش بما عليه، من "تعزية بالشهداء"، وتهنئة للناجين، و"تحقيق" في الكارثة، و"إنهاء التحقيق" خلال ساعات بروايته الخاصة، "أن الربّان هو الذي اصطدم بدورية الجيش التي تلاحقه"، فتكرّست براءة الجيش من دم أولئك الشهداء، بعد براءة المهرّبين.
تتواطأ الأجهزة الأمنية مع المهرِّبين، وتسهّل خططهم. وبعد ذلك، تنقض على الشباب المهرَّبين بصفتهم إرهابيين محتملين
مجلس الوزراء لم يكن أنظم. اجتمع للبحث في هذه المأساة، فقرّر إنشاء اللجان، ومجالس تنمية، والاجتماع بمن يخصه الأمر. ومناجاة المنظمات الدولية بالمساعدة .. أي بتوصيل مبالغ من المال، سوف يشفط جزءاً يسيراً منها، أو كلها.
بعد حفلة القرارات الرثَّة هذه، ومصيرها أن تكوَّم فوق غيرها من "القرارات" في سلة المهملات، كان تصريحان لرئيس الجمهورية: واحد يطالب إحدى الشخصيات الدولية التي زارته بأن تحلّ له "مشكلة النازحين السوريين". والتصريح الثاني "ينذر": "حان الوقت لمعرفة الحقيقة الكاملة عن انفجار مرفأ بيروت". بدوره، كان وزير العمل، مصطفى بيرم، "المحسوب" على حزب الله، يضيق ذرعاً باللاجئين السوريين أنفسهم: "لم تعُد الدولة اللبنانية قادرةً على مقاربة ملف النزوح السوري، كما لم تَعُد قادرة على ضمانه بشكل كلي، ولا على أن تكون شرطياً لضبطه من أجل مصلحة دول أُخرى".
ولا جميل، لا للرئيس ولا للوزير بدعوتهما إلى طرد "اللاجئين السوريين"، فمن ركاب القارب المأساة عائلات سورية، لم تنْتشل ولا واحدة من جثث أفرادها. كما لم تنْتشل جثث فلسطينيين، لاجئين أيضاً، كانوا على متن القارب نفسه. وجميعهم دفعوا أموالاً طائلة لينجوا بجلودهم من ذاك الجحيم اللبناني. .. بل ربما جميل وحيد: إنهم مثل إسرائيل مثل بشار الأسد، أجبروا سكان البلاد على الخروج من أوطانهم، وبشّار الأسد بوحشية تتفوّق على الوحشية الإسرائيلية. والآن، حكام لبنان، يفعلون بهم وبشعبهم ما أتقنه أسلافهم من إسرائيل وبشار. يطردون سكان البلاد ولاجئيها من أوطانهم النهائية أو المؤقتة. مع الفارق: أنهم يدفعونهم إلى الهروب، ويمنعونهم عنه في آن. من دون أن يعاقبوا مهرّبيهم. وكأن الحكام يغرونهم بمافيا هم أوصياء عليها، تنتزع منهم ما تبقى لهم من مال، لترميهم بعد ذلك لأسماك البحر، ويعود المهرّبون إلى قواعدهم سالمين.. وهكذا، لبنانيون فلسطينيون، سوريون.. في قبْضة أهل جهنم هذه الأرض. كل واحد منهم بتاريخ، كل واحد منهم بشكل، بلون، بأريحية، باجتهاد.. والجميع في الجحيم الأكبر، سوريون، فلسطينيون، لبنانيون.