ممنوع من النشر
(1)
أفتح، قبل أيام، شاشة الحاسوب خاصتي، محاولا الكتابة، وفي كل مرة أحاول أن "أداعب" الكيبورد ترتجف أصابعي، ولا أستطيع أن أخط حرفا واحدا، منذ تركت العمل في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في الأردن، قبل سنوات، شعرت أنني أتحرّر شيئا فشيئا من الرقابة الذاتية التي غدت رادعا شديد المراس للجم أي تعبير حقيقي لما يجول في خاطر كاتب امتهن الكتابة منذ عقود.
في وقت ما، جمعت المقالات التي "شطبها" القلم الأخضر لرئيس تحرير صحيفة الدستور (الأردنية) نبيل الشريف، رحمه الله، وحينما ترك رئاسة التحرير، وغدا وزيرا للإعلام، بدأت أخطّط لنشر تلك المقالات في كتابٍ، يحمل اسم "ممنوع من النشر" وطرأ لي في حينها أن أطلب من الوزير أن يكتب مقدمة للكتاب، وحينما عزمت على تنفيذ خطتي، بحثت عن المقالات الممنوع نشرها، فلم أجدها، فقد ضاعت فجأة، ولم أعثر عليها، فبقيت ممنوعة من النشر، ولم ينشر منها شيء إلا ما نشرتُه على صفحتي على "فيسبوك" في ذروة انزعاجي من حجبها عن عيون القرّاء، بعد كل منع.
عملية النشر في الإعلام الرسمي، كوكالة الأنباء الأردنية، التي تصنف باعتبارها المنصّة الرسمية لخطاب الدولة الأردنية، تخضع لجملة من "الفلاتر" شديدة الحساسية، بحيث لا يخرج على نشرتها العامة إلا ما يتم الموافقة عليه من عدد من "المسؤولين". وأذكر إبّان عملي بها في مقتبل مسيرتي المهنية أنني بثثتُ على النشرة العامة "خطأ" خبرا كان معدّا للنشر على النشرة الخاصة التي لا تصل إلا لعدد محدود من المسؤولين، وقد قامت الدنيا يومها على رأسي، وزارنا في الوكالة وزير الإعلام آنذاك هاني الخصاونة (والد رئيس الوزراء الحالي بشر الخصاونة)، حيث عمل على "تهدئة روعي"، وبدا لي أنه وقف حاجزا في وجه أي إجراء عقابي محتمل، كان سيقع على رأسي، وبدا لي أن تلك الزيارة، وإن كانت لتهدئة روعي، كان وقعها علي وقع العقاب الناعم، لأنني تجاوزت ما هو مسموح نشره في وكالة الأنباء الرسمية.
ظل شعار "هو شو فيه" و"شو اللي بصير" عنوان المرحلة المهيمن
عملية النشر في الإعلام المصنّف "شبه رسمي"، وأقصد الصحافة اليومية التي عملت فيها مديرا للتحرير سنوات طويلة، لا تقلّ تعقيدا عن مثيلتها في الصحافة الرسمية، ففضلا عن "الرقيب الداخلي" الذي تعهدت قوانين الرقابة والعقوبات الصارمة بربربته في عمق كل صحافي أردني، هناك مقصّ رقيبٍ يتعهد بخلع أي خبر أو مادة إعلامية من جذورها، وهي في طور "البروفة" إن خالفت التعليمات المكتوبة وغير المكتوبة التي تحكم عمل الصحافة اليومية، المهيمن عليها بقبضةٍ قويةٍ من السلطات كلها، ما ظهر منها وما بطن. والحقيقة أن ثمّة صحافة أخرى كسرت تابوهات الصحافة اليومية، صحافة "التابلويد" الأسبوعية، فقد أحدثت ما يشبه الثورة في الإعلام الأردني، لكنها لم تستطع، على أهمية ما أنجزته، اجتياز حاجز الخوف المزمن من التعبير بحرية، هذا الحاجز بنته عملية معقدة من الهيمنة على العقول والأقلام، هي خليط من القوانين والسلطات الممنوحة لقوى لا تعرف سقوفا في التعامل، وتستخدم شتى أساليب السيطرة المادية والمعنوية. وما لبثت صحافة التابلويد أن عصفت بها أزمة الصحافة الورقية، لتأتي صحافة المواقع الإلكترونية لتحمل "الراية"، ولكن ضمن السقوف المعهودة وآليات "السيطرة" و"التقنين" و"الترشيد". وبالجملة ظل الإعلام الأردني يدار بالآلية نفسها، من الهيمنة والتوجيه و"الهندسة!"، حتى إذا ضرب البلاد "زلزال الأمير حمزة"، وقع الزملاء في عالم الصحافة في حيص بيص، ولم يعرفوا ما يقولونه لجمهورهم الذي صب جام غضبه على رؤوسهم كلهم، سواء كانوا في مقاعد الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي أو الخاص. ومن المفارقات هنا صدور الأمر القضائي بمنع النشر في القضية إياها، علما أن كل من هو في دائرة الإعلام لم يكن لديه ما يقوله إلا ترديد ما سرّب للصحافة الأجنبية. وبتعيبر آخر، لم يكن لدى الزملاء ما ينشرونه أصلا، كان النشر مسموحا أم لا!
وبالتوازي مع هذا كله، ضجّت ساعات البث الفضائي المحلية والعربية بجعجعةٍ لا نهاية لها لنخب تهرف بما لا تعرف، فتحلل وتحرّم و"تستشرف" ما لا يُستشرف أصلا، وظلت الساحة نهبا للشائعات والأقاويل والتسريبات، في غياب سرديةٍ رسميةٍ متماسكةٍ ومقنعة. وظل شعار "هو شو فيه" و"شو اللي بصير" عنوان المرحلة المهيمن. وربما يمر وقت طويل قبل أن تخرج للعلن رواية حقيقية ومتماسكة ومقنعة لحقيقة ما جرى وما سيجري، وربما لا تخرج مثل هذه الرواية أبدا.
مقولة الإصلاح تهرّأت لكثرة ترديدها، فيما يبقى الأمر على ما هو عليه من حالة تآكلٍ في كل بنى الدولة!
اللازمة المتكرّرة التي يردّدها جل من تحدث في هذه "الهمروجة" أنه لا بد من إصلاح جديد وحقيقي وشامل، ومراجعة لكل شيء، يضع المملكة في مفتتح مئويتها الثانية على الطريق الصحيح. ومن أسفٍ أن هذه "القناعة" تهرّأت لكثرة ترديدها، فيما يبقى الأمر على ما هو عليه من حالة تآكلٍ في كل بنى الدولة!
(2)
قبل نحو ثلاثة عقود، خرج علينا الملك الراحل الحسين بتصريح صادم، حين قال إنه "زهق" من رؤية صورته في الصفحات الأولى من الجرائد كل يوم. وبالطبع في مقتبل كل نشرات الأخبار المرئية (والمسموعة طبعا). منذ ذلك اليوم لم يتغير شيء بهذا الخصوص، لكن الأردن تغير كثيرا جدا، وبوسع أي قارئ أن يعرف مغزى ما نقول لو تأمل في بعض الأرقام الصادمة التي بدأت "تزيّن" أجندة البلاد، خصوصا رقم ديون الأردن التي قفزت إلى مستوياتٍ قياسية، كان مجرّد تخيلها كابوسا أسود، غدا اليوم واقعا.