مناصرة المرأة الإيرانية ومناهضة الاستعمار
لا تريد هذه المقالة أن تأتي كثيرا على نفاق الغرب، وازدواجية المعايير، فالأمر أصبح مفضوحا، فالمواقف الغربية الحادّة، ومنها فرض واشنطن عقوبات جديدة على طهران احتجاجا على قمع الحريات ومقتل الفتاة مهسا أميني. لم نر ردّة فعل غربية تقترب ولو قليلا تجاه ما ترتكبه إسرائيل في صيدها اليومي الشباب والأطفال الفلسطينيين، ولا على اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة.
ذلك كله متوقع، فإسرائيل حليفٌ يليق به الإجرام، وبل ويجري تبرير جرائمه، فيما يوظّف الغرب جريمة قتل مهسا أميني، لإضعاف النظام الإيراني والتحريض ضدّه، ليس بالضرورة لإسقاطه، فالصورة ما تزال غير واضحة حيال الموقف من نظام الحكم في طهران، على الأقل لجهة عزله وتقويض نفوذه الإقليمي لصالح أمن إسرائيل ومصالح أميركا.
كل ما ورد نفهمه، لكن ذلك لا يعفينا، وباسم مناهضة الاستعمار وإسرائيل، أن نصمت و/ أو نجد الأعذار لجريمة بشعة، تمثل امتدادا لعقود من قمع المرأة الإيرانية، ففكرة "شرطة الآداب" باسم الدين، أكان في إيران أو في أي دولةٍ عربيةٍ انتهجتها من قبل، وما تزال تستخدم الدين لخرق حقوق المرأة وظلمها، فثورة النساء والفتيات في إيران تتعدّى، وتعدّت رفض فرض الحجاب عليهن، إلى رفض سلطة ولاية الفقيه، بوصفها مصدرا لسلطاتٍ شبه مطلقة، وتكميم الأفواه، وهي انتفاضة مشروعة، فلا يمكن تجميل القمع باسم معاداة أميركا وإسرائيل.
الموقف في العالم العربي منقسمٌ بين مؤيد لطهران بشكل شمولي، بوصفها قوة ردع لإسرائيل، وكارهين لطهران بالمطلق، إنْ لأسباب طائفية أو تأييدا لواشنطن، أو رفضا لسياسات طهران في سورية والعراق، أي من ضحايا نفوذ إيران في المنطقة، ويجب الاعتراف بهؤلاء الضحايا، فمناهضة أميركا وما ارتكبته من جرائم في العراق وسورية وفلسطين، واليمن، لا يعطينا الحق بالتغاضي عن مظلومية من شاركت طهران في قمعهم، بل وقتلهم.
يوظّف الغرب جريمة قتل مهسا أميني، لإضعاف النظام الإيراني والتحريض ضدّه، ليس بالضرورة لإسقاطه
هناك معضلة لدى كثيرين، وبخاصة بين الناشطين والمثقفين، إذ يرون الموقف مما يحدُث في إيران خيارا بين واشنطن وطهران، وهي معضلة مفهومة إلى حد كبير؛ فالمنطقة عانت، وما تزال تعاني، من تداعيات هيمنة أميركا وحروبها ودعمها غير المحدود لإسرائيل، وهو وضع مستمرّ، فنحن لا نتحدّث عن ماض، بل عن حاضر ومستقبل، خصوصا أنه لا وجود لقوة عربية أو حتى لحضور عربي، بل وجود لقوى إقليمية تتنافس على بسط نفوذها، وأهمها إيران وإسرائيل.
لذا، يحكم الخوف كثيرين من أن أميركا ستستغل ما يحدُث للتدخل وإسقاط نظام الحكم لصالح عهد جديد تابع لها وحليف علني لإسرائيل، فمن يدرُس التاريخ الحديث يعرف، أو من يتذكّر الزلزال الذي أحدثته الثورة الإيرانية عام 1979، بإسقاط شاه إيران حليف إسرائيل في المنطقة، والحليف التابع لواشنطن، فجاءت الثورة وأغلقت السفارة الإسرائيلية وأطلقت اسم فلسطين على أهم شارع في طهران، فيما خرج مئات الآلاف لاستقبال ياسر عرفات، في تعبيرٍ جمعيٍّ هادر لتأييد القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني للتحرير والتحرّر، في نصرٍ من الصعب تصويره لمن لا يرى إلا واقع الهزيمة الحالي.
كان التأييد العربي الشعبي للثورة الإيرانية واسعا وحقيقيا، بل كانت مصدر أمل لتقويض نفوذ إسرائيل وأميركا في المنطقة، وإن كان انقلاب نظام الملالي على اليسار والقوى المشاركة في الثورة التي سطّرت سجلا من التضحيات، قد بدأ في حينها يُحدِث ثقوبا في هذا التأييد الشعبي، فقد جاءت الحرب الإيرانية العراقية لتُحدث انقساما، وإن كانت شعبية طهران الجماهيرية لم تتأثر كثيرا في بدايات الحرب، فنار الحرب أشعلها إلغاء العراق معاهدة الجزائر الموقعة بين شاه إيران وبغداد، بتحريضٍ من أنظمة عربية، وبتشجيع من واشنطن، لزجّ البلدين في حرب تستنزفهما.
وإذا كانت بغداد قد استفاقت عام 1984، وبدأت سحب قواتها من داخل إيران، إلا أن آية الله الخميني لم يوقف الحرب، بل انتقل إلى حرب الصواريخ التي دكّت العراق، وتقدّمت القوات الإيرانية نحو مدينة البصرة، وجزر مجنون والفاو، والأخيرة سقطت بأيدي الجيش الإيراني، بعد أن أعطت واشنطن، التي كانت تتلاعب بالطرفين، صور ساتلايت كاذبة لبغداد، فلم تتوقّع هجوما إيرانيا وشيكا، إلا في وقت متأخر.
مواقف الأنظمة العربية من طهران غير مستقلة عن إطار الأجندة الأميركية في المنطقة الهادفة إلى دمج إسرائيل
انتهاء الحرب التي استمرّت ثماني سنوات، ودخول البلدين في محادثاتٍ توّجت باتفاق رسمي لإطلاق النار عام 1990، لكن ذلك لم يجعل من إيران لاعبا نزيها، فقد صادرت طهران طائرات النقل المدنية التي أودعها العراق لديها عشية القصف الأميركي لبغداد عام 1991، ودخلت في تفاهماتٍ مع أميركا من خلال السياسي الراحل أحمد الجلبي، وهو ما أكّده سفير أميركا السابق في العراق، زلماي خليل زاد، في كتابه، كشف عن تواطؤ طهران مع واشنطن عشيّة غزو العراق عام 2003، لإدخال أحزابٍ شيعيةِ سياسيةٍ عراقية تابعة لطهران ومشاركتها في الحكم، حتى تحت رئاسة الحاكم الأميركي، بول بريمر، فهذه الأحزاب لم تقاوم أميركا لأن غايتها كانت الحكم.
المقصود مما سبق، وبعض الأحداث كانت كاتبة هذه السطور شاهدة عليها، مراسلة في العراق وبعد ذلك في إيران، أن إيران انتقلت من مرحلة الثورة إلى الحكم الدكتاتوري تحت غطاء الدين، وإلى دور إقليمي لا يستند إلى المبادئ، بل المصالح، لكن تمسّكها بدعم النضال الفلسطيني، أكان ورقة ضغط في مواجهة أميركا وإسرائيل أو لكسب الرأي العام العربي، وسواء أكان لعبا أو حقيقة، جعل علاقة فئاتٍ واسعةٍ من الشعوب العربية، وبخاصة المثقفين والناشطين والحزبيين، مع طهران غاية في التعقيد.
لذا ينبري كثيرون للدفاع عن طهران بوصفها نصيرا للمقاومة، وخصوصا لدورها في تسليح حركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، في ظل انهيار عربيٍّ وتسابق أنظمةٍ عربية على الدخول في تحالفاتٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ مع إسرائيل متجاوزة مفهوم تطبيع الاحتلال، وكأنه وضع مقبول، لتجاوزه إلى ترديد الرواية الصهيونية وإنكار التاريخ والحق الفلسطيني، والنتيجة أنه يجري التغاضي عن دور إيران الطائفي، وكل أخطائها وخطاياها.
مطلوب من المثقفين العرب موقف مبدئي وواضح، من رفض قمع الحكومة الإيرانية نساء بلدها
وأي محاولة لنقد إيران يتم وضعها في سياق المقارنة مع الأنظمة العربية المدينة بالتبعية لواشنطن، بل التعرّض لتهم العمالة لأنظمة عربية وأميركا وأحيانا لإسرائيل، خصوصا أن مواقف الأنظمة العربية من طهران غير مستقلة عن إطار الأجندة الأميركية في المنطقة الهادفة إلى دمج إسرائيل، وتثبيت هيمنتها وإحلال إيران على أنها العدو الاستراتيجي مكان إسرائيل.
في النهاية، هناك شعب إيراني، وما يحدث حاليا أمرٌ مُدان، رغم محاولة أميركا توظيفه، فلا يمكن الاستمرار في تجاهل حقوق نساء إيران وشبابها، وليس المطلوب تأييد أميركا والدخول في حملة لإسقاط النظام الإيراني. مطلوب من المثقفين العرب موقف مبدئي وواضح، من رفض قمع الحكومة الإيرانية نساء بلدها، تماما كما نرفض قمع أي نظام عربي شعبه، ولنتذكّر أن الأنظمة، مهما طال أمدها، لا تبقى، والشعوب باقية، ولن نستطيع أن نشرح لأجيال إيرانية قادمة صمتنا.
نعي تماما نفاق الغرب، فليس الخيار بين الدخول في أجندة أميركية أو الصمت، بل نحتاج إلى موقف أخلاقي واضح، من أي تدخل أميركي ومن مطالب النساء الإيرانيات، وعلى الأقل: رفض قمع (وقهر) الشعب الإيراني ونسائه، تماما كما ندين قهر الأنظمة شعوبنا ونرفضه، إذ لن يتحرّر شعب بالصمت على قمع شعب آخر.