منصف المرزوقي .. هذا الكتاب
هناك، على علوٍّ في جدارٍ في غرفة الضيافة في منزله في سوسة، صورة للروائي الروسي، دوستويفسكي، علّقها منصف المرزقي (1945)، إعجابا منه بأكثر كاتبٍ تأثّر به، والذي كانت إصابتُه بالصرع، كما معظم أبطال رواياته، والإدمان (مفردُته بالضبط) المبكّر على قراءة هذه الروايات، سببين لاختيار رئيس تونس الأسبق دراسة طب الأعصاب في فرنسا، فتخصّص به، وكان موضوعه في رسالة الدكتوراة "التجارب الطبية على البشر في المرحلة النازية". في شبابه ذاك، في عامه السابع والعشرين، يصادف المرزوقي إعلانا عن مسابقةٍ عالميةٍ للكتابة عن غاندي، فيشارك فيها، ثم يفوز بالجائزة، فيُدعى إلى الهند، ويُستضاف فيها شهرا. وهو الذي يقول إن تأثير غاندي، والزعيم الهندي وفيلسوف اللاعنف وسجين نظام الفصل العنصري الأشهر رئيس جنوب أفريقيا تاليا، نيلسون مانديلا، فيه كان من مصادر تفكيره، وهو اليساري النزوع منذ بواكير نضاله، إبّان كان طالبا في فرنسا، منتظِما في أنشطة الدفاع عن القضية الفلسطينية، وراودته في تلك الغضون أن ينتسب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد صار تاليا مقرّبا من زعيمها المؤسّس، جورج حبش. وفيما زاول الطب وتدريسَه في فرنسا وتونس، وانقطع سنواتٍ في مزاولة "الطب الاجتماعي" في أريافٍ تونسية، وقد أحرز جائزة بورقيبة للطب في 1989، لدراسةٍ أنجزها عن أسباب الإعاقة عند الطفل المغاربي وطرائق الوقاية منها، وتسلّم الجائزة من الزعيم الرئيس الذي ناهض المرزوقي فردانيّتَه ونرجسيّته، بل كان قبل تلك الجائزة قد توبع قضائيا بسبع تهم، بعد نشره في 1986 كتابه "دع وطني يستيقظ"، إحداها "المسّ برئيس الجمهورية".
.. هذه مقاطع شديدة الإيجاز في سيرة الرئيس التونسي الأسبق، منصف المرزوقي، الذي أقدم محامون (!)، أخيرا، على تسجيل قضيةٍ ضدّه في محكمةٍ تونسية، بغرض إدانته بتهم شنيعة، يودي بعضُها إلى الإعدام، في غضون الاحتدام والانقسام السياسييْن الحادّين في تونس، بسبب ما يرتكبه الرئيس قيس سعيّد من قرارات، يستولي فيها على عموم السلطة. تقف على تلك المقاطع، وغيرها كثير مما هو شائق وشديد المؤانسة والإمتاع، في قراءتك كتاب "منصف المرزوقي، حياته وفكره .. حوار ـ سيرة"، والذي يشتمل على حوارٍ مطوّلٍ مع المرزوقي أنجزه المغربيان معطي منجب (السجين حاليا في بلده) وعبد اللطيف الحماموشي (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2021). يُسعفك هذا الكتاب في معرفة مختلف التأثيرات والمؤثرات التي ساهمت في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي الذي يقيم عليه المرزوقي، وما يمكن اعتبارها تحوّلاتٍ أو انعطافاتٍ فكريةً عبَر فيها وراجعها في مساره الثقافي، وهو الذي ظلّ مرابطا في منطقة اليسار الاجتماعي، المناهض للظلم والاستبداد، اليسار الذي يتخفّف فيه المرزوقي، بعد مراجعاتٍ واحتكاكاتٍ واختباراتٍ في وقائع العالم، من التركيز على الأيديولوجيا إلى التحديق في واقع الفقر والجهل وأحوال المجتمعات، وذلك بعد أن تعرّف في فرنسا، لمّا كان طالبا ثم أستاذا وناشطا، على جوهر فكرة حقوق الإنسان، وهو الذي ترأس رابطةً للدفاع عنها في بلده، فاصطدم مع سلطة زين العابدين بن علي الذي التقى به ثلاث مرّات، فحبسه الأخير، إحداها أربعة شهورٍ في زنزانةٍ انفرادية، قبل أن يتم الإفراج عنه استجابةً لضغوطٍ دوليةٍ كثيرةٍ في يوليو/ تموز 1994، وكانت تلك التجربة واحدةً من أكلافٍ غير قليلة (منعه من السفر مرات عديدة، محاولتا اغتيال، ... ) دفعها المرزوقي، في غضون نشاطه الذي لم يتوقف يوما عن الانتصار لحقوق المواطن التونسي في العمل والحرية والكرامة.
يتوفّر الكتاب الذي تنكتب هذه السطور لتثمين قيمته على تفاصيل مثيرةٍ ومهمةٍ في هذا كله، وأيضا بشأن تجربة الحكم رئيسا في قصر قرطاج أزيد من ثلاث سنوات، والتي يقول صاحبنا إن المؤكّد أن مكتبه في القصر الجمهوري كان، في أثنائها، "ملغّما" بأجهزة التنصّت، وإن المكالمات التي كان يجريها كانت تحت المراقبة. ويقول ما هو كثير الأهمية والدلالة عن الشراكة الصعبة مع حركة النهضة في الحكم، وعن محاولات القيادي فيها، رئيس الحكومة، حمّادي الجبالي، تهميش الرئيس والاستحواذ على صلاحياته، ذلك أن "مفهوم الشراكة لم يكن راسخا لدى الإسلاميين".
كلّ إيجاز مخلّ، وإيجاز كتابٍ ثريٍّ بالتفاصيل والإحالات والشهادات، فيه الشخصي والعام، الفكر والسياسة، الثقافة والخبرة، عمليةٌ صعبة.. الأوْلى قراءته إذن.