منطقتنا داخل مفترق طرق جديد

19 فبراير 2022
+ الخط -

أوفدت إسرائيل، الثلاثاء 15 فبراير/ شباط الجاري، مبعوثا خاصا لها إلى مفاوضات فيينا، الجارية مع إيران بشأن ملفها النووي، هو رئيس الشعبة الاستراتيجية في وزارة الخارجية يوش زرقا، وقد أجرى لقاءات مع رؤساء وفود التفاوض، باستثناء الإيراني. فهل تكون هذه المفاوضات فائقة الأهمية مفتوحة الأبواب لاستقبال من يرغب من مبعوثي الدول؟ الجواب بالنفي، غير أن تل أبيب فرضت وجودها باعتبارها طرفا "معنيا"، وإن كان غير مدعو، وذلك تحت طائلة تهديداتها الدورية بتحرّك عسكري ضد طهران ومنشآتها، ما قد يقوّض فرص التفاوض معها.

وبالعودة قليلا إلى الوراء، وبعدما ألغى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الاتفاق الأساسي الموقع في العام 2015، فقد عمدت إدارة الرئيس جو بايدن إلى مراجعة هذا القرار، وسمحت، بالتوافق مع أطراف مجلس الأمن الدائمين، باستئناف المفاوضات بشأن الملف النووي الايراني في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي. وقد أبدت حينها دول خليجية رغبتها في المشاركة في هذه المفاوضات، فالموضوع قيد التفاوض مجدّداً يتعلق بأمن المنطقة الخليجية. وقد رحبت واشنطن وأطراف دولية أخرى بهذه المشاركة، على أن يجري التوافق لاحقا على صيغتها، غير أن هذه المشاركة لم تتم وطويت صفحتها، لأن هناك طرفا رئيسا رفض هذه المشاركة، وهو الإيراني، فيما لم توجّه واشنطن وبقية الأطراف ضغوطا على طهران في هذه المسألة لحملها على الموافقة، وكان الهدف الخليجي، ولعله ما زال، ضمان أن لا تهدد طهران المنطقة بتطوير أسلحتها البالستية، وبمواصلة سياستها الإقليمية التدخلية، فضلا عن كبح تطوير المنشآت النووية. وفي هذه الأثناء، كانت تل أبيب وما زالت ترفض العودة إلى الاتفاق النووي، وترفض استئناف التفاوض الدولي مع طهران، وتهدّد باستهداف المنشآت النووية الإيرانية. وها هي قد بات ممثلٌ عنها يجلس في الغرف الخلفية لقاعة التفاوض، على الرغم من الرفض الإيراني لتوسيع دائرة المفاوضين، والذي انطبق على طرفٍ عربي، لكن هذا الاعتراض لم يُفعّل مع مشاركة ممثل الدولة العبرية في الكواليس. ولئن كانت طهران قد أطلقت تصريحات غاضبة ضد المشاركة الإسرائيلية غير المباشرة، فإنها لم تهدّد، حتى تاريخه، بالانسحاب، ولو مؤقتا، من التفاوض لهذا السبب. وخلافا لذلك، ما زالت طهران على حماستها وتفاؤلها بمجرى التفاوض، وتسعى مدعومةً من موسكو إلى الخروج، ولو باتفاق مؤقت، يضمن لها رفع العقوبات، وبدء استعادة أموال طائلة مجمّدة لتوظيف بعضها في نشاطات "جهادية" في منطقتنا.

تأمل إيران نجاح التفاوض واستعادة أموال طائلة مجمّدة لتوظيف بعضها في نشاطات "جهادية" في منطقتنا

لرُبّ قائل هنا إن ثمّة تلاقياً عارضاً وآنياً بين المصالح العربية والإسرائيلية لجهة كبح البرنامج النووي الإيراني، وأن ذلك يسوّغ عدم الاعتراض على الاهتمام الإسرائيلي الفائق، غير أن هذا الاهتمام يتضمن إبقاء الملف النووي الإسرائيلي خارج المساءلة، ويضمن بقاء الدولة العبرية الطرف الوحيد الذي يمتلك سلاحا نوويا في المنطقة يسهل استخدامه قوة ردع وتهديد وابتزاز. وعلاوة على هذا، إذ تبدو تل أبيب معنية بالوجود الإيراني في سورية، وبدرجة أقل في لبنان، فإنها غير معنيةٍ بالتدخلات الإيرانية الفظّة في العراق واليمن مثلا، ولا بتأليب المكونات الاجتماعية بعضها على بعض في المجتمعات الخليجية، فما يعنيها هو مصالحها الأمنية الحيوية المباشرة، وليس بطبيعة الحال أمن العالم العربي. هذا من دون تجاهل تطورات التطبيع الخليجي الإسرائيلي الذي يتيح لتل أبيب الدخول بصورةٍ مباشرةٍ إلى المعادلات الأمنية الاستراتيجية في المنطقة. وهنا تتبيّن مسؤولية طهران جزئيا على الأقل في خلط الأوراق وقلب المعادلات، فقد استضعفت دول المنطقة وشعوبها، ورفضت التعامل باحترام وندّية مع هذه الدول وغيرها، فيما رفضت واشنطن ضمان أمن الأصدقاء، وامتنعت عن الإقدام على أي احتكاكات عسكرية مع طهران في عهد ترامب، فكان أن حضرت إسرائيل، العدو التاريخي القديم، إلى قلب المنطقة وإلى أعلى مستوياتها. وهو أمرٌ حدث مثله عقب الاجتياح العراقي للكويت، حيث جرى، بعدئذ، التسابق إلى استضافة القواعد العسكرية الأميركية، بعدما كانت صورة أميركا إلى أمد طويل، هي صورة الطرف الدولي الذي تشوبه الشوائب والمنحاز لإسرائيل.

استضعفت طهران دول المنطقة وشعوبها، ورفضت التعامل باحترام وندّية مع هذه الدول وغيرها

ولا يكتمل المشهد إلا بملاحظة أن الأطراف العربية المرتبطة بإيران، مثل النظامين السوري واللبناني وأطراف أساسية في النظام العراقي ثم نظام الحوثيين في اليمن، ترى، وبصرف النظر عن البروباغندا، أن ارتباطها، وحتى تبعيتها لإيران، إنما يرجع إلى رغبتها في دعم جبهتها أمام إسرائيل.. وبدرجة أقل، أمام تركيا و"مطامحها العثمانية". بما يجعل المنطقة والنظام الرسمي العربي أمام نقطة تحول، بل داخل مفترق طرق، فالطرفان، الإيراني والإسرائيلي، يتعلّل أحدهما بالآخر، إذ يجد في حضور الآخر علّة مواتية وذريعة ذهبية لوجوده هو، فيما تجد الأطراف العربية المعنية أنها باتت في قلب هذه المعادلة التي تحضر فيها القوتان الإقليميتان المذكورتان بقوة، وبمطامح متشعبة وبعيدة المدى، إذ لم تعودا مجرّد قوتين في الجوار، إذ تتمدد أذرعهما داخل المنطقة.

ويسترعي الانتباه أن القوة الثالثة في دول الجوار الإقليمي، تركيا، القوة السياسية والاقتصادية الصاعدة، تبدو الأقرب إلى مفهوم الأمن الجماعي العربي كما تبلور وترسّخ سبعة عقود، لجهة احترام استقلال البلدان العربية واستقرارها أمام تدخلات القوى الخارجية (قياساً على استقلال سياسة أنقرة عن نفوذ القوى الكبرى وإقامتها علاقات متوازنة مع هذه القوى). ولا شك أن العلاقات معها في الظروف الراهنة لا تترتب عليها أعباء أو محاذير استراتيجية على الأمن العربي بمفهومه الشامل، ومثال الوجود التركي في الشمال السوري لا يُقاس عليه، فقد ارتبط هذا الوجود بتدفق ملايين النازحين السوريين إلى تركيا، والذين تحول ظروف وطنهم الرهيبة والخطيرة دون عودتهم إليه. علماً أن المعوّل عليه، في نهاية المطاف، هو الاعتماد على الذات وتعظيم قدراتها وإطلاق طاقات الشعوب، لا الاعتماد على أي قوة خارجية أيا كانت، وإعادة اكتشاف المصالح الجماعية بين دول منطقتنا وشعوبها.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.