منطق توقير المجرمين وتدليلهم
يزداد الوضع سوءاً في قطاع غزّة لأسباب واضحة، يرغب كثيرون في المجتمع الدولي في الامتناع عن إدراكها، وفي عدم اتخاذ مواقف بموجبها. فالوضع الإنساني يزداد كارثية لأن قادة الحرب في تل أبيب يزدادون سوءاً، وبالذات بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، فقد أثبت اثناهما أن تعطّشهما لسفك الدماء لا حدود له ولا نهاية له. وما يتبجّح به رئيس حكومتهم عن "النصر التام" لا يعدو أن يكون السعي إلى تدمير تام للقطاع وتسميم التربة، وتدمير الآبار، وبما يتعدّى حتى سياسة الأرض المحروقة إلى تطهير عرقي علني، وتقويض مصادر الحياة. من العبث مخاطبة هذا الشخص باعتباره رجل دولة، إذ سبق له أن أخذ على ديفيد بن غوريون أنه لم يستكمل تهجير من تبقّوا من الفلسطينيين في نكبة 1948. وبينما تعتمد دولته اعتمادا شبه كامل على الدعم الأميركي، فإنه لا يتوانى عن ازدراء أميركا ولية نعمته، إلى درجة لا يتردّد معها في رفع عقيرته والادّعاء بأن أي رئيس وزراء إسرائيلي لا يستحقّ المنصب، إن لم يكن يستطيع قول: لا للمسؤولين الأميركيين. إنه سليل مدرسة القيادي الصهيوني، زئيف فلاديمير جابوتنسكي، الذي أخذ على الحركة الصهيونية أنها شديدة اللين تجاه الفلسطينيين، ودعا إلى نهج استئصالي إزاءهم، باستخدام قوة عارية لا يقيدها قيد. وما يفعله نتنياهو، منذ 7 أكتوبر على الأقل في غزّة والضفة الغربية، مفاده بأنه سوف يبز غيره من قادة الصهيونية في الوحشية والإرهاب، بل سيتفوّق على أي إرهابي في عصرنا، من هتلر إلى ستالين، إلى المستعمرين البيض في أميركا وأستراليا وكندا، وبمواصلته هذا النهج وإدارة الظهر للعالم فإنه يحقّق نصره التام.
السبب الثاني لزيادة الوضع سوءاً أن إدارة الرئيس جو بايدن عاجزةٌ عن اتخاذ أي إجراء بحق قادة هذه الحرب. وبحكم صهيونيّته المعلنة، يجد بايدن نفسه يغرق في وحل العنصرية، يتحدّث بمعسول الكلام عن المدنيين وحقهم في الأمن والغذاء والماء والدواء، لكنه يرفض أن يتحرّك لوقف الجرائم على مدار الساعة ضد الإنسانية. حتى أنه بالكاد يصغي لناخبيه من داخل الحزب الديمقراطي، وبعضهم في الكونغرس ووزارة الخارجية. ويفسّر الباحث والأكاديمي الأميركي، نورمان فينكلشتاين، امتناع بايدن عن اتخاذ موقفٍ ضد نتنياهو بارتهانه إلى المليارديرات اليهود الذين يموّلون حملته الانتخابية هذا العام. ليس الرجل على ذلك الجانب من النزاهة، كما يصوّر نفسه في تنافسه المحموم مع الرئيس السابق دونالد ترامب. إنه يمتنع عن إدانة حرب الإبادة، ويرفض وقف تصدير الأسلحة لحكومة نتنياهو، وقد اعتمدت تلك الحكومة على هذه الأسلحة في حربها القذرة هذه على غزّة، حتى أن بايدن، ومعه وزيره أنتوني بلينكن، يرفضان ممارسة الضغط على نتنياهو لإبرام صفقة وقف إطلاق نار وتبادل أسرى وسجناء. كلاهما مع نتنياهو يشتريان مزيدا من الوقت للفتك بأعداد أكبر من الضحايا، ولتدمير ما تبقى من غزّة. لا يمر يوم بغير سقوط مائة قتيل. لا يمر يوم من دون أن يتبادل نتنياهو وغالانت شرب أنخاب الدم، وبايدن يدور حول نفسه، ولا يدري ما الذي عليه أن يفعله.
على المحاكم التي استدعت مجرمي الإبادة في البلقان أن تسعى في أقرب الآجال لاستدعاء مُجرمين يرتكبون الفظائع نفسها في غزّة وفي الضفة الغربية المحتلة
وقد طرحت واشنطن، منذ نحو ثلاثة أسابيع، مشروعاً أمام مجلس الأمن، وقالت مندوبتها، ليندا غرينفيلد، خلال ذلك إنها ليست على عجلةٍ من أمرها، وإن في وسع الأعضاء الدائمين أن يأخذوا وقتهم في المناقشات ووضع المقترحات (وخلال ذلك يأخذ نتنياهو وقته في القتل). وكل ما تستطيع واشنطن أن تفعله تنزيل مساعداتٍ جوّاً. هكذا يثير بايدن دهشة مناصرين أميركيين له، بما يبديه من ضعف وخور حيال نتنياهو وحكومته ومجلس حربه، وبرهبته الشديدة، مثلاً، من توقيع عقوبات على إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهما من عتاة الإرهاب الاستيطاني.
تلطخت صورة أميركا، في عهد ترامب، بازدهار الموجة الفاشية ضد المهاجرين والمسلمين والأفارقة والأميركيين اللاتينيين، ومع بايدن تتواصل مسيرة الارتداد إلى الوراء، بالتغطية على حرب إبادة جماعية وبالضلوع فيها، ولكأن أرواح الأسلاف العنصريين البيض تستيقظ في نفس بايدن، إذ إن الإبادة الجماعية الجارية منذ 7 أكتوبر في غزّة ليست هي الحرب الأولى من نوعها، فلماذا الوقوف ضدها؟ دعها تمُرّ، مشفوعة بمجاملاتٍ لطيفة لآلاف الضحايا من الأطفال والنساء ممن تزداد أعدادهم كل يوم، بما يمثل وصمة خزي في جبين سادة المجتمع الدولي. ولا تعدو مطالبات البيت الأبيض بتأمين المدنيين قبل اجتياح رفح، سوى من ضروب المجاملة، إذ لا مكان آمناً في قطاع غزّة، ولا منطقة لم يجر تهديم بيوتها بصورة كلية أو شبه كلية، ثم: هل إن أزيد من مليون نازح منكوب في الملاذ الأخير رفح، هل هم بعضٌ من المتاع حتى يجري نقلهم من منطقة إلى أخرى وللمرة الرابعة أو الخامسة؟ هل يرتضي بايدن أن يتشرّد هو وأبناؤه وأفراد عائلاتهم مشياً على الأقدام من منطقةٍ إلى أخرى، ومن خيمةٍ إلى أخرى، في الريف الأميركي، فيما طائراتٌ معاديةٌ تطاردهم؟
لا تعدو مطالبات البيت الأبيض بتأمين المدنيين قبل اجتياح رفح، سوى من ضروب المجاملة، إذ لا مكان آمناً في قطاع غزّة، ولا منطقة لم يجر تهديم بيوتها بصورة كلية أو شبه كلية
يُضاف إلى ما تقدّم العجز العربي غير المسبوق في نصرة شعبٍ شقيق يتعرّض للإبادة، والامتناع عن اتخاذ أية إجراءات ذات مغزى تلجم الوحشية الإسرائيلية. فيما يتبين الآن أن تدليل القتلة في تل أبيب، وتوقيرهم بالتعامل معهم على أنهم مسؤولون ورجال دولة هو في أساس استمرار هذه الحرب. فيما الصحيح والبديهي معاقبتهم، وأن يتم التعامل معهم، كما هم عليه، باعتبارهم يمارسون إرهاب دولة، وبصورة متعمّدة ومنهجية، ويرفضون الإصغاء لكل دعوات احترام الحياة البشرية للمدنيين، وهذا هو ديدن الإرهابيين ممن يروْن أن عالمهم ليس عالم بقية البشر، وأن الحقّ في الحياة مقصور على من هم على شاكلتهم فحسب.
على حملة مكافحة الإرهاب أن تتواصل وتأخذ علماً بالجرائم اليومية ضد الإنسانية في غزّة، وعلى أيدي أشخاص يرتدون ملابس حديثة وينتحلون صفة رجال دولة، وعلى المحاكم التي استدعت مجرمي الإبادة في البلقان، أن تسعى في أقرب الآجال لاستدعاء مُجرمين يرتكبون الفظائع نفسها في غزّة وفي الضفة الغربية المحتلة.