من أراد اغتيال الكاظمي؟
تجيب عن السؤال أعلاه جهة تحقيقٍ مفوّضةٌ ومستقلّة، فليس من وظائف أصحاب التعاليق الصحافية أن يرتدوا أثوابا أوسع منهم. والأدعى، أو الأوجب، في مسألة محاولة الاغتيال التي استهدفت رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، أن يلحّوا على أن تؤدّي الدولة وظيفتها الأساس، فتعمل على تنوير الرأي العام بكل الحقائق التي تصل إليها في شأن الجريمة المستنكرة، ثم تتولّى العدالة، ممثلةً بالقضاء وأجهزةٍ تنفيذيةٍ مختصّة، إعمالَ القصاص المستحقّ في من أقدموا على الفعلة المُدانة، ومن خطّطوا لها، ومن وراءهم. وهذا صاحب هذه الكلمات لن يضرب في الرمل، ويخمّن أن هؤلاء أو أولئك هم من أرادوا أن يعبُر العراق في زوبعة فوضى من العنف والشقاق، لو قيّض، لا سمح الله، لخفافيش السوء، أن ينجحوا في تدبيرهم الأسود. وإنما المُرادُ في هذه الأسطر الإحالةُ إلى أن الصواريخ والمسيّرات التي توجّهت إلى منزل مصطفى الكاظمي في بغداد هي من منتوجات نقصان التوافق السياسي في العراق بين التمثيلات والتشكيلات متعدّدة الولاءات والحسابات، والتي ذهبت إلى انتخاباتٍ مبكّرةٍ، في بيئةٍ سياسيةٍ قلقة، للمليشياوي فيها كلمته العليا، وللإيراني أذرعته، وللشارع غضبُه وأسئلته، وللعراق كلّه بحثه المضني عن أرضٍ سياسيةٍ تنهض عليها آليات تنافسِ برامج معنيةٍ بنهوض البلد وناسه. في غضونٍ كهذه، لن تكون الانتخابات مخرجا من أزمةٍ، لن تؤدّي إلى تخفيف احتقاناتٍ ماثلة، لن تأخذ المجال العام إلى اقتراحات إنقاذٍ من حال التوتر والاستقطاب إلى تقاطعاتٍ وتفاهماتٍ ومشتركاتٍ عريضة.
الدليل على هذا الزعم هو الحادث قدّام الجميع، ومنه أن أعداد الطعون (1400 مقدّمة من المرشّحين والكتل السياسية) في نتائج انتخابات 10 أكتوبر تكاد تقترب من أعداد المرشّحين، والفرز اليدوي في محطّات الاعتراض والطعون مستمر، والنتائج الأولية المعلنة، والتي تُحرز فيها الكتلة الصدرية المرتبة الأولى، بنيْلها 73 مقعدا (من 329) تُقابَل باعتراضاتٍ وفيرة، بل واحتجاجاتٍ ساخطةٍ تعمد إليها قوى خاسرة، في الشارع، يسقُط في مواجهة الشرطة لها قتيلان وجرحى عديدون. وأصوات القائلين إن النتائج مزوّرةٌ ومفبركةٌ عالية، والمطالبات بإجراء الفرز اليدوي في عموم عملية التصويت نشطة. ولمّا كانت نسبة التصويت، بحسب ما أعلنت المفوّضية المختصّة، 41% أقلّ منها في انتخابات العام 2018، وأقلّ كثيرا من 62,2%، النسبة في أول انتخابات بعد إطاحة نظام صدّام حسين، في العام 2006، فهذا يعني، من بين كثيرٍ يعنيه، أن نفض العراقيين أيديهم من الانتخابات ومواسمها يطّرد اتّساعا. وطالما أن من أيسر الميسور أن تتمنطق السلاحَ عناصرُ في أجنحةٍ عسكريةٍ لتشكيلاتٍ سياسيةٍ، وغير سياسية، لا تعداد لها، ملوّنةٍ بعصبوياتٍ مذهبية، أو بمظلومياتٍ متوطنةٍ في الحشايا والنفوس، لا يصير مفاجئا تماما أن يستطيب فالتون من هذا التنظيم أو ذاك، أو ربما مأمورون من قياداتٍ مركزيةٍ، جولةً مستجدّةً من فوضى موضعيةٍ أو واسعة، يُشعلها تغييب مصطفى الكاظمي اغتيالا. وكان طيّبا من الرجل أنه دعا إلى الهدوء وضبط النفس "من أجل العراق"، بحسب تعبيره الحصيف.
.. مرّة أخرى، شديدُ الإلحاح أن تدلّل الحكومة العراقية على ولايتها وكفاءتها وأهليتها، فتسرّع في عملية تحقيقٍ مهنيةٍ، مستقلةٍ، شجاعةٍ بداهةً، لمعرفة أيادي السوء. لما لهذا الأمر، وهو بديهيٌّ على أي حال، من مردودٍ طيب الأثر في المشهد العراقي الذي لا يُراد له أن يغادر معادلاتِه التي استقرّت بعيْد العام 2003، فيما شباب العراق وشابّاته انتفضوا غير مرّة، وهبّوا في البصرة كما في بغداد، في النجف كما في واسط، في تعبيراتٍ ساخطةٍ على التكوينات السياسية الماثلة قدّامهم، وهم يغالبون أحوالا معيشيةً عسيرة، ولا يتمتّعون بحقوق العمل والأمن والعدالة الاجتماعية، في بلدٍ نفطي زراعي، فيه من الموارد، ومن العقول والأدمغة، ما لا يجعله في الرداءة والتردّي اللذين يقيم فيهما منذ عقود. وأن يتوسّل حانقون على نتائج لم تُرضهم من انتخاباتٍ، في جوهرها بلا محصولٍ سياسيٍّ عظيم الإيجابية، أو مجرمون مجرّد أدوات لعصاباتٍ بلا بصيرة، أن يتوسّل هؤلاء أو أولئك صواريخ ومسيّراتٍ لتغييب رئيس الوزراء، ففعلُهم هذا موصولٌ بخريطة اضطرابٍ في البلد لمّا ينته بعد.