من أعبابو إلى حميدتي
عاميْن بعد انقلاب ضبّاط عشرينيين وثلاثينيين، في المملكة الليبية، تزعّمهم الملازم معمّر القذافي، وانقلاب العقيد أركان حرب جعفر نميري في السودان، وانقلاب اللواء محمد سياد برّي في الصومال، وبعد شهورٍ على انقلاب اللواء طيّار وزير الدفاع، حافظ الأسد، في سورية، استبدّ بخاطر رائدٍ في الجيش المغربي (صار مقدّماً في آخر أيامه)، اسمه أمحمد أعبابو (36 عاماً)، أن ينجَح كما هؤلاء، ولاقى هواه هذا ما كان في خاطر قائد الحرس الملكي الجنرال محمد المذبوح (44 عاماً)، فخطّط اثناهما لخلع الحسن الثاني، باقتحام قصرِه في الصخيرات (بين الرباط والدار البيضاء) في حفل عيد ميلاده في الأول من يوليو/ تموز 1971. وكان أعبابو مدير مدرسةٍ عسكريةٍ لتدريب ضبّاط صفٍّ في الجيش المغربي. وذلك شهرين بعد إلغائهما هجوما على موكبٍ للملك في طريقه إلى حضور مناورةٍ عسكرية. سيّر أعبابو رتلاً طويلاً من الضبّاط والجنود من المدرسة إلى حيث القصر، مسافة نحو أربع ساعات. لم يُخبر أيا منهم، وقد زادوا عن المائة، بأنهم ذاهبون إلى قصر الملك، لعزله (أو اختطافه أو قتله أو...)، بل للمشاركة في مناورة. وقعت عملية الاقتحام، وجرى إطلاقٌ كثيفٌ للرصاص في القصر في أثناء حفلٍ مهيب، وسقط قتلى وجرحى عديدون، بينهم وزراء ومسؤولون وضيوف. نجا الملك، وقُتل المذبوح. وقبل أن يُحسَم المشهد تماماً، مضى أعبابو إلى القيادة العامّة للقوات المسلحة في الرباط. وهناك جادلَه جنرالٌ قادَ قوةً لإنهاء التمرّد، ثم أطلقا الرصاص على بعضهما، فقُتل الجنرال وأصيب أعبابو من دون أن يموت، لكنّه طلب من عسكريٍّ أن يرمي رصاصةً قاتلة عليه، فمات، وماتت المحاولة الانقلابية.
الفريق أول محمد حمدان دقلو (48 عاماً) من يذكّر هنا بالضابط المغربي القتيل. مع التسليم البديهي بمساحاتٍ شاسعةٍ من الفروق بينهما، من قبيل التعليم العسكري والمهني العالي لدى الأخير، والقليل من التعليم لدى الأول الذي خُلعت عليه رتبته العسكرية الثقيلة غداة خلع مربّيه وصاحب أفضل الأفضال عليه، الرئيس عمر البشير. ولكن، ثمّة كثيرٌ يجمعهما، الطموحُ الفادح فيهما، والذكاء ربما، والعناد المؤكّد. هذا ما يبدو فيه الجنرال السوداني الذي يترأس مليشيا مسلحّةً جيداً، يتردّد أن تَعدادَها يصل إلى مائة ألف. سمّاها له البشير "قوات الدعم السريع"، بعد أن قاد مليشيا الجنجويد التي فعلت ما فعلت في إقليم دارفور الذي ينتسب هذا الرجل إلى إحدى قبائله العربية. أما أمحمد أعبابو (أخوه محمد أعبابو ضابط شارك معه في عملية الصخيرات)، فيصفُه المُلازم الذي عمل في إمرته، المختطف في سجن تازمارمت المخيف 18 عاماً في ما بعد، أحمد المرزوقي، بأنه ذكيّ صارمٌ داهيةٌ، طموحُه بلا حدود، عنيدٌ، مزاجيٌّ، و"أعصابُه برميل بارودٍ على أهبة الانفجار". وعندما يقول حميدتي إن خصمَه قائد الجيش، رئيس مجلس السيادة في السودان، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، كذّاب ومجرم، وإن المواجهات المسلحة العنيفة التي أشعلها (حميدتي) لن تنتهي إلا بتسلّمه البلاد، فإنه يتطاوَس كثيرا، بفائضٍ من الثقة عالٍ لديه، يتبدّى في طموحٍ زائدٍ ظاهرٍ في هذا الكلام.
فشل أمحمد أعبابو قبل 53 عاماً، لغير سببٍ وسبب (منها بؤس تخطيطه)، وكانت مغامرتُه على كثيرٍ من الطيش. أما حميدتي فالطيشُ فيه مسنودٌ بدبّاباتٍ ومدرّعاتٍ وأرتالٍ من العسكريين في بلادٍ مترامية، غير أن الحسم الذي يشتهيه ليس مؤكّدا تماماً، وفشلُه وارد، وإنْ بعد خرابٍ ودمار وقتلى وجرحى يحتاج عدّهم وقتا. ومن مقاصد الإتيان هنا عليهما معاً الإحالة إلى أن المساحة بين زمنيهما هي مساحةٌ بين نمط من العساكر الانقلابيين العرب، مؤكّد أنهما من أهل الطموح، بين من كانوا من أبناء جيوشهم وعلى أهليةٍ عسكريةٍ احترافية، ومن يُنمذجهم تاجر الإبل والماشية السابق، أمير الحرب الراهن، حميدتي. ولقائلٍ هنا أن يقول إن صعود رجلٍ من هذا اللون (لم يلتحق بالجيش أبداً!) إلى خريطةٍ شاسعةٍ من النفوذ السياسي والعسكري في بلدٍ عربيٍّ كان أول من عرف انقلاباتٍ عسكريةً في أفريقيا جنوب الصحراء (إبراهيم عبّود 1958) هو تعبيرٌ عن ركاكةٍ عربيّةٍ راهنةٍ حادّة. وعندما يفيدنا المؤشّر العربي بأن السودان هو البلد العربي الذي يعرف أقلّ ثقةٍ من أبنائه بالجيش، وأنّ هذه الثقة ظلّت تتناقص منذ العام 2011، فذلك يعني أنّ حميدتي كارثةٌ موازيةٌ في السودان المنكوب به وبالبرهان ... وهنا في الوسع أن يُقال إن المغرب نجا من نكبةٍ بأمحمد أعبابو.