من الأنوار إلى الإبادة .. فرنسا تُجَمِّل تاريخها

10 ابريل 2021

تقرير لجنة التحقق التاريخي الفرنسية بين يدي ماكرون والمؤرخ دوكليرت (26/3/2021/فرانس برس)

+ الخط -

"التاريخ سلسلة أكاذيب مُتفق عليها"، قولة الإمبراطور الفرنسي، نابليون بونابرت، تنطبق على تاريخ بلاده أكثر من غيره، فقد نجحت فرنسا في مزج الحقيقة بالأساطير، لترسّخ لنفسها صورة مهد الحرية والحقوق في أذهان الفرنسيين قبل غيرهم، وبَنَت سياسات القوة الناعمة حول مخيال رومانسي، جعلها تتربع على عرش الثقافة والسياحة العالمية، وتهيمن على سوق العطور والخمور والتجميل. إنجاز مُبهر لم تكن لتحقّقه، لولا تضافر جهود مؤرّخيها ومثقفيها وسياسييها الذين بلوروا سرديات مؤسسة للغرب: أنّ فلاسفة الأنوار ناهضوا العبودية، وحاربوا المَلَكِية والكنائس بسلاح العقل والعلمانية، ومهّدوا لثورةٍ انتهت بإعلان حقوق الإنسان.

لكن ثلة من كبار المؤرخين الفرنسيين، بمن فيهم جان كليمان مارتان وكريستوف مارتان وأنطوان ليلتي، زعزعوا هذه الأسطورة وأكدوا أن الثورة الفرنسية صنعها الفلاحون والحرفيون والجياع الأمّيون، لا الفلاسفة والمفكرون البورجوازيون والمطيعون للنظام الملكي، وأن "فلاسفة الأنوار" كانوا يتحرّكون في نطاق النخبة الضيق، وكانت مخطوطاتهم قليلة الانتشار لسريّتها، بل لم تكن آراؤهم منسجمة فيما بينهم. فعلى عكس فولتير ودينيس ديدرو، المتشبثين بالإلحاد والعقلانية، كان جان جاك روسو يعتبر الدين أساسا للفضيلة، وكانت فلسفة "العقد الاجتماعي" وجدانيةً أكثر منها عقلانية، تستدلّ بالشعور والخيال، ولم يرَ روسو ضيرا في التضحية بالفرد وحريته باسم "الإرادة العامة"، ما جعل بعضهم يتّهمونه بـ "الديمقراطية التوتاليتارية".

ما زال الجدل قائما بشأن الوجه المظلم لسردية الأنوار التي تم استغلالها لتغليف المشروع الاستعماري باسم "المهمة الحضارية"، ورغبة فرنسا في "الارتقاء" بالشعوب المستعمَرة

ولم تكن فرنسا مهدا لحقوق الإنسان أيضا، بل جاء إعلانها متأخرا بمائة عام عن "إعلان الحقوق" البريطاني، ونحو 15 عاما عن مثيله الأميركي. أما قرار إلغاء العبودية في فرنسا عام 1794، فلم يُبادر إليه المفكرون، بل كان استجابة لثورة العبيد في هايتي التي انتهت بإلغاء العبودية في الجزيرة في خريف 1793. وضرب بونابرت القرار بعرض الحائط بإصداره مرسوما في 1802 يعتبر العبودية مفيدةً لازدهار فرنسا. استمرت تجارة الاستعباد إلى حين فجّر العبيد ثورتهم بأنفسهم في المستعمرات البريطانية، وجارتيها الهولندية والفرنسية، واضطرّت فرنسا إلى إلغاء العبودية بلا رجعة في منتصف القرن التاسع عشر، أي بعد أزيد من قرن على نشر بضعة سطور عن زنجي سورينام في رواية "كانديد" لفولتير التي ما زال بعضهم يزعم إن باطنها يناهض العبودية، بينما ظاهرها يدافع عنها، وسخرية مونتيسكيو من العبيد.

وما زال الجدل قائما بشأن الوجه المظلم لسردية الأنوار التي تم استغلالها لتغليف المشروع الاستعماري باسم "المهمة الحضارية"، ورغبة فرنسا في "الارتقاء" بالشعوب المستعمَرة. استمرّت قصة الإشعاع الحضاري إلى أن استيقظ العالم على همجية المجتمع الفرنسي، بمفكريه ومثقفيه وإعلامه وعوامّه وسلطات حكومة فيشي التي تفانت في خدمة المحتلّ النازي طوال الفترة 1940 - 1944، ورحّلت زهاء 75 ألف رجل وطفل وامرأة من اليهود والغجر إلى معسكرات الإبادة، لم ينج منهم إلاّ بضعة آلاف. ألحق تواطؤ المجتمع الفرنسي مع جيش هتلر ضررا كبيرا بصورة فرنسا، وما أحرجها أكثر أن أزيد من نصف الجيش الذي حارب باسمها إلى جانب الحلفاء من أجل تحرير أوروبا من جيوش الفاشية والنازية كان عربيا ومسلما وأفريقيا. وتعترف السجلات الفرنسية الرسمية بأن ربع مليون مقاتل جزائري ومغربي وتونسي خاضوا هذه الحرب، وكان والدي أحد المنخرطين في الكتيبة السادسة للرماة في هذا الجيش.

ألحق تواطؤ المجتمع الفرنسي مع جيش هتلر ضررا كبيرا بصورة فرنسا، وما أحرجها أكثر أن أزيد من نصف الجيش الذي حارب باسمها إلى جانب الحلفاء كان عربيا ومسلما وأفريقيا

ستجد فرنسا الخلاص في شخص الجنرال شارل ديغول الذي سيغسل وجهها من هذا العار. بقامته الفارعة وصوته الجهوري وخطبه الحماسية، سيروّج ديغول من إذاعة "بي بي سي" في لندن أسطورة فرنسا "المقاوِمة"، "الحرّة"، "الصّامدة" في وجه المحتل في الداخل والخارج؛ أسطورة سيفضحها في السبعينيات من القرن الماضي المؤرخ الأميركي، روبيرت باكستون، في كتاب "فرنسا فيشي"، يثبت فيه أن "المقاومة" كانت حدثا هامشيا في ظل نظام فيشي. كما وثق المؤرخ الكندي، إريك جنينز، في كتابه "فرنسا الحرة أفريقية"، كيف كانت المقاومة الحقيقية خارج فرنسا، في أفريقيا، بعيدا عن لندن. ديغول نفسه لم يكن يعني الكثير للجنرال الأميركي، دوايت أيزنهاور، ورئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل اللذين لم يستشيراه في خططهما الحربية، منذ الإنزال البريطاني - الأميركي للقوات العسكرية في سواحل المغرب والجزائر في خريف 1942 حتى إنزال نورماندي صيف 1944.

ديغول الذي نعته روزفلت بـ "المتعصب، ذي النزعة الفاشية"، واعتبره تشرشل "متعجرفا وخبيثا"، لم يُقنع المنتصِرين بدعايته الكاذبة التي طهَّرت التاريخ الرسمي من حقيقة تحرير المستعمَرين أرض مستعمِرهم. ولكن لحسن حظ فرنسا أن تشرشل أصرّ على إعادة بناء قوتها في أعقاب الحرب، وحصل لها على مقعد دائم في مجلس الأمن، وما يصاحبه من امتيازات. ديغول وكل رؤساء فرنسا من بعده، باستثناء جاك شيراك وإيمانويل ماكرون، رفضوا أن يقرّوا بمسؤولية الدولة في جرائم النازية، بحجّة أن حكومة فيشي لم تكن تمثل الدولة الفرنسية، فقط "فرنسا الحرّة" التي مثلها ديغول في المنفى كانت شرعية. ولم تُحَاسَب فرنسا على مساهمتها في إبادة اليهود فحسب، بل أدلت بدلوها إلى جانب الحلفاء في المحاكمة العسكرية لقيادات النازية في مدينة نورمبرغ الألمانية في أعقاب الحرب.

ما زال شبح الإبادة الجماعية التي أودت بحياة ثمانمائة ألف ضحية من قبائل التوتسي يلاحق فرنسا للعام الـ 27 

استغلت فرنسا مقعدها إلى جانب الكبار لتلمّع صورتها من جديد، فكثفت نشاطها في مجال الحقوق والحريات، واحتضنت قادة العالم، يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948، لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في قصر شايو بباريس، في أجواء احتفالية ربطت الحدث بالثورة الفرنسية وعصر الأنوار. إعلان نجحت فرنسا في نسبه للسياسي الفرنسي، رينيه كاسين، في حين أن المؤلف الأصلي هو المحامي الحقوقي الكندي البارز، جون بيترز همفري، رئيس إدارة قسم حقوق الإنسان في الأمانة العامة في الأمم المتحدة آنذاك. فاز كاسين، رئيس التحالف الإسرائيلي، بجائزة نوبل للسلام لجهوده في صياغة إعلانٍ لم يكن أوّل من ألفه، وحقوق لم يؤمن بالحد الأدنى منها، هو الذي عمل على تشجيع المشروع الصهيوني في فلسطين، وسكت على جرائم دولته في الجزائر وغيرها من المستعمرات الفرنسية.

وحين خسرت فرنسا حروبها الاستعمارية، فرضت على 14 دولة أفريقية في جنوب الصحراء توقيع اتفاقياتٍ ما زالت معظم بنودها الأمنية سرّية، لكن ما ظهر من شقّيها، الاقتصادي والمالي، يوحي بأن فرنسا خرجت من الباب لتعود من النافذة، وأن هذه البلدان لم تنل استقلالها بعد، إذ ما زالت مسلوبة السيادة ومجبرة على إيداع 50% من احتياطها النقدي لدى الخزانة الفرنسية ضمانا لعملتها، من دون أن تستفيد من الفوائد العائدة من هذه الأصول التي تستفرد بها فرنسا، مثلما تتحكّم في مواردها الخام وسوقها وقادتها.

حين خسرت فرنسا حروبها الاستعمارية، فرضت على 14 دولة أفريقية توقيع اتفاقياتٍ معظم بنودها الأمنية سرّية

في أفريقيا أيضا، ما زال شبح الإبادة الجماعية التي أودت بحياة ثمانمائة ألف ضحية من قبائل التوتسي يلاحق فرنسا للعام الـ 27 على التوالي، وما زال مؤرّخوها يصرّون على تبرئتها من تهمة التواطؤ في هذه الفظائع، إذ عيّن الرئيس ماكرون لجنة خبراء لتقصّي الحقيقة، عبر دراسة الأرشيف الرسمي لتلك الحقبة، وأقرّت الشهر الماضي (مارس/ آذار) بأن فرنسا تحالفت، في التسعينيات من القرن الماضي، مع نظام الهوتو في رواندا، وعملت على تسليحه وتدريب قواته وحماية قادته وغضّت الطرف عن التحضيرات للإبادة، ثم خلُصت إلى أن حكومة تآلف اليمين واليسار آنذاك كانت "مسؤولة" و"مخطئة" في هذه "الأحداث"، لكنها "غير مذنبة" و"غير متواطئة"، بحجّة أنه لم تكن لديها "نية الإبادة". عبثا يحاولون التلاعب بمفهوم التواطؤ، فبشهادة كبار الخبراء القانونيين الفرنسيين، مثل جيرو دو لابراديل ورافييلا ميزون وداميان روي، فرنسا مُلْزَمَة باحترام المفهوم القانوني للتواطؤ الذي اعتمدته المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، والتي تشكلت في 1994، بقرار من مجلس الأمن، فلم تشترط المحكمة في المتواطئين وجود "نية الإبادة"، وأصدرت أحكاما بحق شخصيات رواندية بتهمة التواطؤ، على أساس شرطين استوفتهما الحكومة الفرنسية أيضا: تشجيع الجناة الرئيسيين ماديا ومعنويا، ومساعدتهم بشتى الطرق على ارتكاب هذه الجرائم، وهم على عِلم بقصدهم الجنائي.

سارعت مختلف وسائل الإعلام الفرنسي إلى الاحتفال ببراءة فرنسا، من دون أن تشكّك في مصداقية لجنة غير مستقلة، اختارتها السلطة بعناية فائقة، ولم يتضمن أعضاؤها الـ 14 أي خبير في رواندا، أو أي خبير في القانون الجنائي الدولي، ما سهل تجاوز مفهوم "التواطؤ" حسب الأحكام الصادرة في جرائم رواندا. لا أحد يعلم متى ستحاسَب فرنسا على جرائمها، لكن إصرار الروانديين، ومعهم فرنسيون عادلون، أسقط القناع عن إجرام الرئيس الاشتراكي، فرانسوا ميتران، الذي أبان عن عنصريته، حين قال لصحيفة لوفيغارو الفرنسية يوم 12 يناير/ كانون الثاني 1998"في تلك البلدان (رواندا)، الإبادة ليست في غاية الأهمية". أما ديغول، فسيظل ذلك البطل الأسطوري في نظر الفرنسيين، ما لم يَحْمِل المغاربيون فرنسا على الاعتراف، في مناهجها المدرسية، بتحريرها من النازية بمساهمة العرب والأمازيغ والأفارقة.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري