من الشوكولامو إلى بوظة بكداش وأطباء سورية

13 يونيو 2023
+ الخط -

شكّل الأطباء السوريون، للعام الثالث على التوالي، المرتبة الأولى من حيث عدد الأطباء الأجانب، بحسب إحصائية نشرتها نقابة الأطباء الألمانية، تأتي بعدها رومانيا ثم اليونان فالنمسا وروسيا، من دون أن ننسى الأطباء السوريين في أميركا وكندا وغيرهما. وجدير التذكير بأن قبول الأطباء في سوق العمل للقادمين من بعض البلدان يتطلب الخضوع لامتحانات لغوية صعبة، وامتحانات معادلة الشهادة لمنح الترخيص بمزاولة المهنة، وها هم الأطباء السوريون يجتازون هذه المراحل بجدارة، وينخرطون في هذه المهنة الحسّاسة والشاقّة، التي أثبتت جائحة كورونا مدى أهميتها، وحجم الثغرات التي تعاني منها دولٌ كثيرة، حتى المتقدّمة منها.
الطبيب السوري مميّز، أو على الأقل هو جادّ في دراسته ومزاولة مهنته وتطوير نفسه وتكوينها علميًا، وليس عيبًا أو عارًا، أو مجالًا لتعيير الطبيب السوري أن يُدرّس الطب باللغة العربية، كما تهكّمت الإعلامية اللبنانية نضال الأحمدية في لقائها أخيرا مع الإعلامي وليد عبّود، والذي أصبح "ترند" شغَل مواقع التواصل بمختلف أشكالها، وبردود وتعليقات بمئات الآلاف.

أن يتكلم الطبيب لغة بلاده ليس عيبًا، بل من ضرورات الدراسة وممارسة المهنة، وهذا لم يكن عائقًا لدى الطبيب السوري في تعلّم اللغات

ليست المرّة الأولى التي تصرّح فيها الأحمدية بتصريحات عنصرية نارية وفجّة تجاه السوريين، وهي دائمًا ما تعمّم، إذ تتهم شعبًا بأكمله، وهذا لا يليق بها أو بمهنة الإعلام والصحافة التي يفترض أنها تبحث عن الحقيقة، وتناصر قضايا الإنسان، وتسعى إلى أن تكون مستقلة كي تستحقّ المكانة التي تُمنح لها بوصفها سلطة رابعة، لكن أن تكون حججها في اتهاماتها وادّعاءاتها تفتقد إلى الدقة والدراسة والدراية، وتطلقها أحكام قيمة تسعى من خلالها إلى الحطّ من قيمة شعب بكامله فهذا لا يليق بكيان الصحافة وضميرها، "وكل شي بالطبّ معرّبينو"، فأين المشكلة في هذا؟ أن يتكلم الطبيب لغة بلاده ليس عيبًا، بل من ضرورات الدراسة وممارسة المهنة، وهذا لم يكن عائقًا لدى الطبيب السوري في تعلّم اللغات ومواكبة الأبحاث العلمية ومتابعة كل جديد، وحضور المؤتمرات التي يتم فيها اللقاء مع أطباء من كل أنحاء العالم وتبادل المعرفة والخبرات، لم يمنع تعريب الطب في الجامعات من أن يكون الطبيب السوري مميّزًا وله بصمته، فكاتبة هذه السطور من هذا الوسط، واشتغلت فيه، في القطاعين الحكومي والخاص، حوالي 30 عامًا، وأعرف مستوى الأطباء في سورية، بالرغم مما كانت تعاني، مجتمعا ودولة، من أشكال الفساد والمحسوبيات والاستبداد وغيرها، لكن الطبيب السوري بقي في غالبية الشريحة الطبّية، محافظًا على كفاءته العلمية والمهنية والأخلاقية إلى حدّ كبير، وها هو يُثبت جدارته في بلدان اللجوء والهجرة. بل أستطيع القول إنه يتفوّق على الطبيب الأجنبي لناحية مهمة، هي خبرته السريرية، فالطبيب في البلدان المتقدّمة واقع تحت سطوة الآلة المتحكّمة بعجلة الاقتصاد في مختلف جوانبه، والقطاع الصحي أحد مجالاته. الطبيب بعيد عن المريض، يعتمد بشكل كبير على الاستقصاءات والأجهزة والوسائط المساعدة، بينما الطبيب السوري ماهرٌ سريريًا، فنحن اعتدنا أن نكون قريبين من المريض، وأن تكون للفحص السريري أهمية كبيرة في حياتنا المهنية، فهل هي تُهمة، أو نقيصة تدعو إلى الاستخفاف بصاحبها كما أرادت أن تقول السيدة الأحمدية، أن يُعرّب الطب في سورية؟ طبعًا بالنسبة لي، فتعريب الطب قضية أخرى تتطلب مناقشة في فضاء مختلف، لكنها لم تؤثر على كفاءة الطبيب السوري ونزاهته.

يعود نشاط عائلة غراوي في صناعة الشوكولا إلى العام 1805، وأولى شركاتها الخاصة في هذا المجال يعود إلى 1931

أمّا ألّا يعرف العامل في مقهى بيروتي، أو أي منطقة أخرى، ما هو الـ"شوكولامو"، فهذا ليس مقياسًا طبقيًّا حتى، في عصر تجاوز العالم فيه هذا التصنيف الرجعي، بل لدينا مثال يقول "كل الناس خير وبركة"، ألم تسمع به الأحمدية؟ ربما هذا الشاب هجّرته الحرب طفلًا من بيته ومدرسته وهناءة عيشه، واضطرّته ظروف اللجوء وتأمين لقمة العيش أن يعمل، ويقبل مثل هذه الإهانات ساكتًا، الشوكولامو موجود في سورية ربما قبل أن تولد السيدة نضال، لكن ليس جميع السوريين مضطرّين لمعرفته وتناوله، لديهم بوظة بكداش التي اكتسحت شهرتها العالم، وصار لها فروع في أصقاع الأرض، بكداش التي عمرها أكثر من قرن وربع قرن، منذ أول انطلاقتها على يد مؤسّسها محمّد حمدي بكداش في العام 1895، في قلب الحميدية، قلب دمشق العريقة، حيث يمكن لمتذوّق البوظة وتوابعها من ابتكارات هذا المحل أن يعايش تجربة إنسانية تراثية جميلة، يشهد حكاية البوظة الدمشقية، وهو يرى العامل الدمشقي يدقّ البوظة بمهباجه، وآخرين يملأون الأقداح التقليدية الخاصّة، بكداش التي زارها ملوك وزعماء ورؤساء ومشاهير وسيّاح من كل العالم، لم تفقد حميميتها وقربها من أبناء بلدها، كانت للفقراء والأغنياء بالدرجة نفسها، بل كان لديها طبق مرطّبات من أطايب الحلوى الباردة، إنه "كشك الفقراء"، يقدّمه بكداش بأناقةٍ تليق بكرامة الإنسان، مهما كان فقيرًا. ومثل بكداش، شاعت محلات البوظة العريقة التي تصنع بالطريقة نفسها في أكثر من مدينة سورية، كبوظة جعّارة في اللاذقية، التي أيضًا صار لديها فروع في بلدانٍ عديدة.
عندما أجري لي حفل توقيع لروايتي "النبّاشون" في معرض بيروت الدولي للكتاب، سرّني أن طبقًا مليئًا بالشوكولا الفاخرة كان يتصدّر الطاولة في جناح دار الآداب، ممهورة بماركة "شوكولا غراوي"، هل تعرف السيدة الأحمدية أن عائلة غراوي من أهم التجار ورواد الصناعات الغذائية في سورية؟ يعود نشاطها في صناعة الشوكولا إلى العام 1805، وأن أولى شركاتها الخاصة في هذا المجال يعود إلى 1931، وأنها أخذت الجائزة الأولى في فرنسا في 1937، متفوقة على الماركات السويسرية والفرنسية وغيرها من تلك الرائدة في صناعة الشوكولا؟ ولديها مصنع أيضًا في لبنان.

السوري إنسان، يا سيدتي الإعلامية، وحضاري، وأخلاقي، ولا يرضى أن يكون عبئًا على أحد، لكن شياطين الكون اجتمعوا عليه

السوري "ما بيعرف يقول بونجور ولا غود مورنينغ"، وهذا مؤشّر خطير على التباين الثقافي بين السوريين واللبنانيين، على حدّ وصفها، فبأية لغة تتكلّم الأحمدية؟ وما هي لغتها الأم؟ وهل يوافقها اللبنانيون جميعهم على ذلك؟ وهذا المؤشّر الخطير على "ضياع الثقافة اللبنانية" يستدعي إعادة اللاجئين السوريين بالقوّة، كما تقول، فهل نسيت لغة جدّاتها، عندما كانت سورية ولبنان أرضًا واحدة، وهل غاب من لبنان كل من يقول: صباح الخير، نهارك سعيد، وكل عبارات التحيّة التي تعبّر عن غنى لغتنا العربية، ودفء قلوب أبنائها ومحبّتهم وتواصلهم الإنساني؟ حتى عبارة: السلام عليكم، التي يمكن أن يُضفي عليها بعضهم صفة دينية أو طائفية برغم شيوعها، كم تحمل من السموّ في دلالتها؟ 
السلام عليكم أيها اللبنانيون والسوريون الأصلاء الطيبون: ليس هذا المقال ردًّا على نضال الأحمدية، وأنتم انتفضتم للقيم والأخلاق ورفع الضيم، من لبنانيين وسوريين وعرب آخرين، لكنه بقعة ضوء خاطفة تذكّر بأن الشعوب هي الأبقى، وأنها لا تُؤخذ بجرائر حكّامها، ولا تقييمها بالمسطرة نفسها، وأنها منتجة حضارة وثقافة ومقوّمات حياة، وإذا كانت سورية تمرّ بأزمة بسبب حربٍ تصنّف من الأخطر في العصر الحديث، اضطرّت الملايين من شعبها لأن يهاجروا هروبًا من الموت، فإن الشعب السوري الذي يسأم الذلّ وهدر كرامته من المتعصبين في كل العالم، ما زالت كرامته عزيزة عليه، وما زالت قيمه نبيلة، وما زال يستنبط كل طاقاته المكنونة ليواكب العصر ويكون منتجًا وفاعلًا، وليست معايير الحضارة الإنسانية تقوم على الشوكولامو، التي هي بالمناسبة اسم صنف طعامي وليس مفردة لغوية، مثلما قالت الأحمدية: إنه لا يفهم لغتها.
في النهاية، جرحت قصة شاهدتها على "يوتيوب" قلبي. .. شاب سوري في تركيا يوصل طلبات "ديليفري"، عندما كان يوصل أحد الطلبات لمح بيانو في صدر صالة البيت الذي فُتح لاستلام الطلبية، لم يستطع مقاومة حنينه، وربما شغفه، طلب من صاحب البيت أن يسمح له بالعزف قليلًا على البيانو، وكان هذا لطيفًا فدعاه، فجلس أمام البيانو كما لو أنه في حضرة القداسة، وراح اللحن يتصعّد أنغامًا تخطف الروح بعذوبتها، بينما الشاب السوري يبدو كما لو أنه يحلّق في سمواتٍ بلا حدود. 
السوري إنسان، يا سيدتي الإعلامية، وحضاري، وأخلاقي، ولا يرضى أن يكون عبئًا على أحد، لكن شياطين الكون اجتمعوا عليه.