من المستفيد من محاولات إشعال فتنة طائفية في ليبيا؟
منذ إطاحة نظام مُعمّر القذّافي، في عام 2011، وليبيا تعيش صراعاً على السلطة، وانقساماً سياسياً أنتج أكثر من حكومة، الأمر الذي أدّى إلى تعطيل معظم مؤسّسات الدولة وانقسام معظمها بين هذه الحكومات، ووجد مُتصدّرو المشهد في هذا الانقسام، وهذا التشظّي، المناخَ المناسب لاستمرارهم، رغم الفشل الذي انعكس في مناحي الحياة في البلاد كلّها، وصُرِفت المليارات من دون حسيب أو رقيب، ما أدّى إلى انتشار غير مسبوق للفساد، عكسته تقارير الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة، وأشارت إليه الأحكام الصادرة من مكتب النائب العام.
وجدير بالذكر أنّ السلطة في البلاد، منذ العام الماضي، تتقاسمها حكومتان في كلٍّ من شرق البلاد وغربها، سعتَا، ولا تزالان، إلى تعزيز وجودهما بمناكفات سياسية، وبادّعاء شرعية لا تملكها، لا حكومة طرابلس، التي أخلف رئيسها عبد الحميد الدبيبة بوعوده التي تعهّد فيها بأن يقتصر دوره على قيادة البلاد إلى الانتخابات المرجوّة، وبأنّه لن يكون مُرشّحاً لها، وبرّر ذلك بأنّ تلك التعهدات والوعود كانت أخلاقية، وليست قانونية (!)، كما ادعاء شرعية لا تملكها حكومة بنغازي، التي تزعم أنّها الحكومة المُعتمدَة من مجلس النواب، وهي تعي جيّداً، قبل غيرها، أنّ مجلس النواب هو أيضاً فاقد للشرعية ومُغتصِبٌ لها ورافضٌ للتنازل عنها، وأنّه لولا خلاف رئيسه عقيلة صالح الشخصي مع الدبيبة، لما وافق المجلس على استحداث حكومة بديلة في جلسة شابتها شبهاتٌ كثيرة.
لا يعرف عامّة الناس في ليبيا الفرق بين المالكيّة والإباضيّة، بل تصاهر العرب والأمازيغ، وربطتهم علاقات صداقة ودم وحسن جوار
اختلفت الحكومتان في كلّ شيء، واتفقتا في إلهاء الليبيين بقضايا فرعية تُصدَّر إلى الواجهة بين حين وآخر، بحِرَفيّة تامّة، وتفنّنت كلٌّ منهما في تحويل وسائل الإعلام إلى طبولٍ وأبواق في أعراس النفاق، وسخّرتا من أجل ذلك لجاناً إعلامية أسندتا إليها هذه المهام، ووضعتا تحت تصرّفها بعض القنوات الفضائية، ومَوَّلتا كثيراً من صفحات التواصل الاجتماعي لغرض تحويل الرأي العام وإبعاده، وإشغال الناس عن قضاياهم الحقيقية بمشكلات وأزمات جانبية، تتعلّق، في العادة، بجوانب معيشية جعلت ليبيين كثيرين يخوضون معركة بقاء يوميّة في وجه الأزمات اللامتناهية. اقتصر تصدير الأزمة في البداية على الجانب المادي، مثل أزمات الوقود التي تظهر من وقت إلى آخر، إلى تأخّر الرواتب أشهراً عديدةً، مروراً بندرة السيولة، ومشكلات مرضى الأورام ونقص الأدوية والمعدّات الطبية، إلى تحريض بعض القبائل على الأخرى، وغيرها من الأسلحة التي تستخدمها الحكومتان كلّما شعرتا بتعالي الأصوات بشأن الاستحقاقات الانتخابية المُنتظَرة أو انتشار الفساد والوساطة والمحسوبية، واستباحة الأراضي الليبية، شرقها وغربها، نتيجة تقاعس هاتين الحكومتَين، ورغبتهما في البقاء في السلطة بأيّ ثمن. وإمعاناً في إذلال المواطن، عادةً ما تختار المناسبات الدينية لتصدير هذه الأزمات، كما حدث في عيد الأضحى الماضي، حين تزامن غلاء أسعار الأضاحي مع عدم توفّر السيولة، وأدّى إلى عجز عائلات ليبية كثيرة، وللمرّة الأولى، عن الحصول على مُتطلّبات هذه المناسبة.
أسهم المصرف المركزي في تبنّي هذه السياسة في أحيان كثيرة، كان جديدها أخيراً أزمة النقود المُزوّرة، التي كانت حلقة أخرى من ضمن حلقات الأزمات المُفتعَلة، التي فاقمت من حيرة المواطنين، لتسود حالةٌ من الحيرة معظم الأسواق الليبية، بعد امتناع الشركات والمحالّ التجارية عن التعامل بهذه الفئة، ليصبح شغل المواطن الشاغل أسابيع كيفية التخلّص من الأوراق النقدية المُزوّرة، مجهولة المصدر (حسب تصريح محافظ المصرف المركزي). استمرّت الحكومتان في مسلسل افتعال الأزمات، التي تنوّعت أساليبها وتعدّدت، لتنتقل من أزمة الوقود، إلى أزمة السيولة، إلى العملة المُزوّرة، مروراً بالماء والكهرباء، والرواتب المُتأخّرة التي أدّت جميعها إلى تأزيم الوضع المعيشي في كلّ مرّة، وإشغال المواطن بالطريقة التي يمكن أنّ يحلّ بها هذه الأزمات أو التي تمكّنه من التعامل معها.
اختلفت الحكومتان في كلّ شيء، واتفقتا في إلهاء الليبيين بقضايا فرعية تُصدَّر إلى الواجهة بين حين وآخر
اللافت للنظر أنّ هذه الأزمات المُفتعَلة أخذت منحنى آخر أكثر خطورة، حاول إشعال فتيل الفتنة الطائفية، التي لم تعرفها ليبيا في تاريخيّها القديم والحديث، إذ أفتت الهيئة العامّة للأوقاف، التي تتبع مباشرة لرئاسة الحكومة الوطنية، بتكفير أتباع المذهب الإباضي، واعتبرتهم "أهل بدع وأهواء"، يجب عدم قبول شهادتهم. ورغم أنّها ليست المرّة الأولى التي تَصدُر فيها مثل هذه الفتاوى، فقد سبق أن أصدرت هيئة الأوقاف التابعة للحكومة السابقة في الشرق الليبي فتوى اعتبرت فيها الإباضية فرقةً "منحرفة" و"ضالّة"، إلّا أنّ إحياء هذه الفتوى في غرب البلاد تزامن مع توتّر العلاقة بين حكومة الدبيبة وسكّان زوارة، الذين ينتمي أغلبهم إلى هذا المذهب، بسبب الخلاف على التحكّم والسيطرة على معبر رأس جدير الحدودي مع تونس، الذي استمر إغلاقه شهرين، بعد أن شهد مواجهات مُسلّحة بين مليشيات تابعة لزوارة ومليشيات الحكومة الوطنية، الأمر الذي يلقي شكوكاً بشأن توقيت صدور هذه الفتوى، ويَستبعِدُ أن يكون ما حدث عفوياً.
وجدير بالذكر أنّ الأصوات تعالت، منذ صدور هذه الفتوى، من معظم المدن والقرى الأمازيغية، التي طالبت في بيانات مُتزامنةٍ بحقها المشروع في تكوين هيئة مُستقلّة تتولّى أمور الأوقاف في مناطقها، داعية إلى إلغاء فروع الهيئة العامة للأوقاف في هذه المناطق، وقد ربطت كثير من هذه البيانات الفتوى بالأحداث في رأس جدير، ومحاولة الحكومة العزف على وتر الطائفية لإشغال المواطنين، في هذه المناطق، بمسائل هامشية. وبالفعل، أقفلت كثير من هذه المناطق فروع الهيئة العامة للأوقاف في مدنها وقراها. وفي السياق نفسه، استنكر معظم الليبيين في شرق البلاد وغربها ما ورد في منشور هيئة الأوقاف، واعتبروه محاولة لإشعال فتيل فتنة طائفية لا تعرفها ليبيا المُكوّنة من مجتمع مسلم متجانس يسوده في العموم فكر ديني معتدل، يعيش فيه الجميع منذ مئات السنين أحبّة متآلفين، يصلّون في مسجد واحد وخلف إمام واحد، ولا يعرف عامّة الناس الفرق بين المالكيّة والإباضيّة، بل تصاهر العرب والأمازيغ، وربطتهم علاقات صداقة ودم وحسن جوار، خاصّة في مناطق الجبل الغربي، التي يتجاور فيها العرب والأمازيغ.
في كلّ حال، ليس عسيراً على المُدقّق في أحدث زوبعة مُفتعَلة معرفة أنّ وراء الأكمة ما وراءها، ولا يحتاج ذلك إلى عبقرية أو ذكاء استثنائي، فإثارة الخلاف مع الإباضية، في هذا التوقيت، مسألة ليست عفوية. وبالتأكيد، ليست انتصاراً لمذهب ديني مُعيّن، ولكنّها محاولات تصبّ في الهدف نفسه، من خلال صناعة مشكلاتٍ وأزمات لتشتيت النظر عمّا يحدث في البلاد. ولذلك، المُستفيدون من إشعال هذه الفتن هم متصدّرو المشهد في الشرق والغرب، لأنّهم يدركون أنّ اتفاق الجموع يعني المطالبة برحيلهم وعائلاتهم، هم الذين أصبحوا يتحكّمون في مصير البلاد والعباد، وأسهموا في انتشار الفساد، وارتهنوا للخارج، وأسهموا في فقدان الثقة بين مكوّنات الوطن. ولهذا، لن تكون هذه الأزمة الأخيرة، وسيستمرّون في محاولاتهم، ولا ضير من استبقاء مأساة المواطن لسنوات مادام ذلك يُحقّق غاياتهم من المآسي، وصناعة الأزمات.