من راهن التعليم الجامعي في مصر
أظهرت نسب الحدود الدنيا التي أقرّتها وزارة التعليم العالي المصريّة للقبول في الجامعات الخاصّة والأهليّة للعام الدراسي 2024 – 2025 تراجعاً ملحوظاً في نسب القبول في كليّات الجامعات الأهليّة والخاصّة على السواء، بعد تقسيمها إلى ثلاث مجموعات، بهدف توسيع قاعدة الطلّاب المقبولين في تلك الجامعات، والذين لم يتمكّنوا من الالتحاق بالكليّات نفسها في الجامعات الحكوميّة، وتقتصر فرص الالتحاق بالجامعات الأهليّة والخاصّة على القادرين على سداد رسوم كبيرة، تتفاوت بين جامعة وأخرى، تبلغ عشرات الآلاف من الجنيهات سنويّاً.
ظهرت الجامعات الخاصّة أوّل مرّة في مصر في العام 1996، وبدأت بثلاث جامعات، بيْد أنها ظلّت تتكاثر عاماً بعد آخر، حتى وصل عددها، أخيراً، إلى 32. أمّا الجامعات الأهليّة فهي نمط جديد لم يظهر في الفضاء التعليمي المصري إلا منذ بضع سنين فحسب، وبدأت بأربع، بيْد أنها تزايدت بسرعة عجيبة، ووصل عددها إلى 20. ولافت أن الحكومة أنفقت خلال السنوات الماضية 39 ملياراً من الجنيهات، لإنشاء 12 جامعة أهليّة من أصل 20، بهدف اجتذاب الشريحة القادرة على الدراسة في الخارج من فئة أبناء "المحاسيب".
بيْد أن المفارقة الطريفة أن الحكومة صبّت الاهتمام على الحَجر، قبل أن تستثمر في البَشر، بمعنى أنها أنشأت مقرّات فخمة تكلّفت عشرات المليارات، لكنها، في المقابل، نسيت أن تُعدّ كوادر أكاديميّة بصورة مناسبة، لشغل مواقع هيئات التدريس في الجامعات الأهليّة، فكانت النتيجة أن تلك الجامعات لجأت إلى الاستعانة بالكوادر الأكاديميّة في الجامعات الحكوميّة، التي تعاني أصلاً ما تفرضه الحكومة عليها من زيادة سنويّة في أعداد الطلّاب المقبولين بها، بصورة تفوق طاقتها الاستيعابيّة، مع عجز كبير في الكوادر الأكاديميّة من أعضاء هيئات التدريس، ما ينال، في نهاية المطاف، من جودة العمليّة التعليميّة في الجامعات الحكوميّة، ومن جودة مُنتَجها من الخِرّيجين. والمفارقة الأكثر طرافة أن الحكومة اكتشفت أن الميسورين من "المحاسيب" الذين يُلحقون أبناءهم بالجامعات الأهليّة، ذات المصروفات الباهظة مُستحقّون للدعم الحكومي، فقرّرت دعم مصروفات الدراسة لطلّاب الجامعات الأهليّة، وفقاً لما نشرته صحيفة الأهرام في 5 أغسطس/ آب 2022.
ستُمسي أحوال الجامعات الحكوميّة بعد عقديْن، مثلما آلت إليه أحوال المدارس الحكوميّة
يأتي هذا بالتزامن مع توسّع الجامعات الحكوميّة، في تطبيق برامج تعليم جامعي ذات طبيعة خاصّة، عُرفت باسم "الساعات المُعتمدة"، وصل عددها أخيراً إلى 53 برنامجاً، تكون الدراسة فيها بالإنجليزيّة، في صالات مُكيّفة، ولا يمكن للطلّاب الالتحاق بتلك البرامج إلا بعد سداد رسوم باهظة، صارت تضاهي مصروفات الالتحاق بالجامعات الخاصّة أو الأهليّة. وظهرت تلك البرامج تحت دعوى أنها ذات جودة تعليميّة أفضل، ولا تهدف إلى الربح، بيْد أن تلك البرامج أصبحت، بمرور الوقت، تهدف إلى الربح، وصارت منافساً للجامعات الخاصّة والأهليّة، بمحاولة اقتسام حصّة الطلّاب الميسورين، من ذوي القدرة الماليّة العالية التي تُمكّنهم من الالتحاق بها.
النقطة اللافتة أنه بالرغم من "رَسْمَلَة" التعليم الجامعي، وتسليع الخدمات التعليميّة بهذه الصورة المُمنهَجة التي من شأنها تعميق الفوارق بين الطبقات، بجعل التعليم الأفضل، وفقاً لما هو مُعلَن، قاصراً على القادرين والميسورين من أبناء الأغنياء، مع تراجع فرص أبناء الفقراء الذين ربما يكونون من ذوي القدرات العلميّة الأعلى، على الرغم من هذا، لا توجد معايير واضحة لشروط القبول في الجامعات الخاصّة والأهليّة، كما لا توجد آليّات لرقابة جودة الخدمة التعليميّة التي تقدّمها، أو جودة مُنتجها من الخرّيجين.
سكّ الراحل رشدي سعيد مُصطلَح "مصر الغاطسة" و"مصر الطافية"، في كتابه "الحقيقة والوهم في الواقع المصري" (كتاب الهلال، القاهرة، نوفمبر 1996)، عندما تعرّض للانقسام الاجتماعي الكبير الذي ضرب المجتمع المصري، منذ السبعينيّات، بسبب التوزيع غير العادل للثروة، مع الضربات المتلاحقة للطبقة الوسطى التي ظلّت تتناقص مساحتها حيناً بعد آخر.
يوجد في الجامعة الحكوميّة الواحدة أكثر من نظام للدراسة
تناول رشدي سعيد قضيّة التعليم في مصر، وما طرأ على المنظومة التعليميّة في العقود الماضية، بعدما صار هناك تعليم لأبناء "مصر الطافية"، يختلف تماماً عن تعليم أبناء "مصر الغاطسة" فكتب: "رأت نُخَب الكُتلة الطافية التي تشكّلت منذ السبعينيّات أن التعليم القائم لم يعد صالحاً لأبنائها فتركوه لحاله ينعى من بناه، وبنوا لأنفسهم مدارس خاصّة مستقلّة، وقاموا بالالتفاف حول شهاداته وسعوا للحصول على إجازات المدارس الأجنبيّة. وبهذه الأعمال، تكون النُّخَب قد تبنّت فلسفة جديدة للتعليم، تختلف تماماً عن تلك التي وضع أُسسها الآباء وعبّر عنها فارسها الأوّل طه حسين، وهي الفلسفة التي تشكّلت في أعقاب النهضة القوميّة التي جاءت مع ثورة سنة 1919". واصل حديثه عن أحوال التعليم الجامعي: "وقد انحدر الحال بالجامعات المصريّة، فلم يعد يبغي دخولها من الطلّاب إلا من لم يجد سبيلاً لدخول الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، أو الالتحاق بجامعة أوروبيّة، أو أمريكيّة، بل ذهب الحال بالنُّخَب أن تخجل من إلحاق أبنائها بها، فسعت لتأسيس جامعات خاصّة بعيدة عنها". استكمل رشدي سعيد التفصيل في هذه النقطة: "وعلى الرغم من أن شيئاً لم يُنشَر بعد، عن شكل الجامعات الخاصّة التي يُزمَع تأسيسها في مصر، فإن القليل الذي عُرفَ عنها ينبئ، بكلّ وضوح، أن الذين ينوون إنشاء هذه الجامعات لا ينتمون إلى طبقة مُتسقة النشأة أو الميول أو المستوى الفكري... والجامعة التي تريد أن تُنشئها هي في تصوّرها ليست مكاناً جادّاً للبحث والتحصيل، بل هي أشبه بالنادي الخاصّ يجتمع فيه أبناؤها لكي يحصلوا منها على شهادة تؤهّلهم لارتقاء المناصب العالية، والحصول على الصفقات المجزية. فالنجاح هنا لا علاقة له بالقدرة على التحصيل، قدر ما له علاقة بنسب الطالب وقدرته على دفع المصاريف الباهظة. الجامعة في هذا التصوّر حقّ للأبناء يدخلونها من دون أن يحتاجوا أن يتجشّموا مشقّة الدخول في مسابقات الثانويّة العامة، وقواعد لجان التنسيق، ويخرجون منها بعد نُزهة لطيفة عبر سنوات الجامعة. أمّا مجموعة المُنتجين، فإنّهم ينظرون إلى الجامعة نظرة أكثر ذكاءً، فهي أولاً مشروع يمكن أن يحقّق الربح، فما دام كثيرون من أبناء النُّخب في مصر والبلاد العربيّة يسافرون إلى خارج أوطانهم لتلقّي العلم في معاهد باهظة النفقة، فلماذا لا تُقام في مصر جامعة تجذب هؤلاء الطلّاب وأموالهم التي يُنفقونها في الخارج؟. وهي ثانياً مشروعٌ مطلوبٌ لإعداد أبنائهم، وأبناء الأذكياء من الفقراء، لإدارة أعمالهم بالطرق المُتقدّمة التي لا يُتيحها التعليم في الجامعات المصريّة، وللقيام بالأبحاث اللازمة لفتح آفاق جديدة للاستثمار الداخلي والتعاون الخارجي. وهي ثالثاً واجهة طيّبة لتجميل وجه النُّخبة القبيح، فهي دليل اهتمامهم بالعِلم والخير. ومن هنا اهتمامهم بالإعلام أن جامعتهم لن تكون مقصورة على الأغنياء، بل ستكون مفتوحة لأذكياء الفقراء".
انتهى كلام رشدي سعيد الذي كتبه قبل نحو ثلاثة عقود، جرت فيها مياه كثيرة في نهر التعليم المصري، بيْد أن الواقع فاق كلّ ما تنبّأ به، بل تفّوق على أيّ خيال جامح، فمن المُحزن أن تعدّد الأنظمة التعليميّة في مصر يبدأ من مرحلة التعليم الأساسي، التي يوجد فيها من أربعة إلى خمسة أنواع، وصولاً إلى التعليم الجامعي الذي عرف تلك الآفة أخيراً، بل يوجد في الجامعة الحكوميّة الواحدة أكثر من نظام للدراسة. وبمدّ الخطّ على استقامته، ستُمسي أحوال الجامعات الحكوميّة بعد عقديْن، مثلما آلت إليه أحوال المدارس الحكوميّة، وهو أمرٌ من الخطورة بمكان، يُنذر بعواقب مستقبليّة وخيمة، أبسط نتائجه تتجاوز تعميق الانقسامات الاجتماعيّة، والطبقيّة، والمعرفيّة، في مشهد لم يعرفه مطلقاً تاريخ مصر الحديث، ولا في أيٍّ من مراحله، حتى في العهد المَلكي أو عصر الباشوات الذي يحلو لبعضهم أن يضرب به المَثل في الفوارق الطبقيّة.