من سنغال سنغور إلى بشير فاي
دخلت السنغال في نهاية مارس/ آذار الماضي حقبة جديدة، بعد انتخاب المعارض بشير (أو باسيرو) ديوماي فاي رئيساً جديداً. يهدّد هذا الانتخاب إرث البلاد "السنغوري" وسياستها، التي كانت متأسَسة على علاقة غير متوازنة مع فرنسا. ويُستخدم هنا مصطلح "الإرث السنغوري" في إشارة إلى الزعيم السنغالي ليوبولد سيدار سنغور، الذي عُرف شاعراً وسياسياً، وكان أول رئيسٍ للسنغال عقب استقلالها في العام 1960. يشبه سنغور، المُعجب بفرنسا والمتخصّص في لغتها وآدابها، رموزاً سياسية كثيرة لدول الجنوب، جمعوا بين الانبهار بالغرب (ومحاولات التشبّه بالغربيين) والسعي إلى نيل الاستقلال. سوف تتشكّل مسارات سنغور السياسية من هذا التناقض ما بين مشاعر حُبّ الاستقلال والرغبة العارمة في التحوّل جزءاً من فرنسا. وسوف تنعكس هذه المشاعر المتناقضة على مواقف كثيرة، من أهمها ما سيعرف بتيار "الزنوجة"، الذي ولد في باريس في النصف الأول من القرن العشرين، على يد مثقفين سود، أبرزهم سنغور. وكان هذا التيّار يسعى إلى أن يحصل على اعتراف من الفرنسيين بأدب السود المكتوب بالفرنسية، على اعتبار أنّه يمثل جزءاً مهماً، ومدرسةً من مدارس الأدب الفرنسي.
لم يكن سنغور مجرّد أكاديمي أو مثقف يعيش في فرنسا، بل سعى إلى أن يتخصّص في اللغة الفرنسية، وأن يجيدها كأهلها، بل مضى أكثر من ذلك، فشارك في الحرب العالمية الثانية ضمن القوات الفرنسية، قبل أن يأسره الألمان عامين قضاهما في معتقلات النازيين. تابع سنغور انشغالاته بالمقاومة بعد خروجه من المعتقل، واستمرّ فيها حتّى هزيمة الألمان. حظي سنغور باهتمام فرنسي كبير منذ شبابه، فحصل على منحة دراسية، وشجّع على الانخراط في الفضاء الأكاديمي وصولاً إلى ترشّحه رئيساً لما يُعرف بـ"الأكاديمية الفرنسية"، ذات السمعة والمكانة المعروفة، في سابقةٍ كانت الأولى من نوعها لأستاذ أفريقي.
وصل إلى سدّة الحكم في داكار للمرّة الأولى ممثل للاتجاه الرافض للوصاية الفرنسية، التي استمرّت منذ الاستقلال
كما هو متوقّع، لم يقدّم هذا الارتباط العاطفي بالفرنسيين إلى حدّ الزواج من فرنسية، وتقنين تدخّل فرنسا عبر موظّفيها في حكومة ما بعد الاستقلال، فوائد كثيرة للسنغاليين الذين عاشوا كأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية في ظّل احتكارات الفرنسيين، الذين بدأوا يهاجرون بأعداد كبيرة إلى البلاد طلباً للربح الاقتصادي. شكّل ذلك كلّه فرصة لا تعوّض لفرنسا لمواصلة سيطرتها على البلاد، مع ميزة التخلّص من إثم الاحتلال المباشر. كانت الدعاية الفرنسية، ولا تزال، تصوّر سنغور، الذي كان يمضي في فرنسا من الوقت أكثر مما يمضيه في بلاده، قائداً ملهماً. ذلك الرضا لم يكن له ارتباط بأيّ إنجاز وطني محلّي، فالسنغال وصلت في العهد السنغوري إلى مرحلة الفشل الاقتصادي، والعيش على المعونات، إذ انتهى حكمه، الذي امتدّ عقدين، والبلاد غارقة في ديون صعبة السداد.
استمرّت هذه العلاقة الفريدة من نوعها مع خلفه عبده ضيوف، الذي سيُكافأ بترؤس المنظّمة الفرنكوفونية، ثمّ مع عبد الله واد، وأخيراً، الرئيس السابق ماكي سال. تفسّر تلك العلاقة الدور الذي لعبته السنغال في سياستها الخارجية الإقليمية ذراعاً لفرنسا في القارّة الأفريقية، من خلال موقعها وعضويتها في المنظّمات الدولية والإقليمية، كما تفسّر المكانة الجيوسياسية، التي كانت تحظى بها بفضل الإسناد الغربي. كان ذلك الدور أوضح ما يكون إبان أزمة النيجر الأخيرة. فرنسا الغاضبة من خروج البلد الغني بالموارد من تحت سيطرتها، بلغ بها الأمر حدّ التلويح بالتدخّل العسكري، قبل أن تتراجع حين انتبهت لضعف موقفها، وصعوبة تبرير ذلك التحرك لشعبها وحلفائها. البديل، كان حضّ الجوار على القيام بهذه المهمة، من خلال مجموعة غرب أفريقيا (إيكواس)، التي تمثّل فيها الحليفتان الكبريان؛ نيجيريا والسنغال، الثقل الأكثر أهمّية. بعد تهديدات لم تسفرْ عن أيّ تراجع من قبل قيادة النيجر، أعلنت "إيكواس"، التي كانت شرعت بالفعل في تنفيذ عقوبات اقتصادية وحصارٍ قاس، أنّها على بعد خطوة من القيام بعملية تأديبية تهدف لاجتياح العاصمة النيجرية نيامي، من أجل استعادة حكم الرئيس محمد بازوم.
من المستبعد قيام فاي بخطوات فيها تحدٍّ صارخ على غرار ما قامت به النيجر أو بوركينا فاسو
طويت هذه الصفحة الآن، فمن ناحية، استطاعت النيجر، من خلال الاستفادة من تناقضات الفريق المناوئ، صدّ محاولات التدخّل الخارجي في شؤونها، بل مضت أكثر من ذلك إلى طرد القوات الفرنسية، وطرد السفير الفرنسي، الذي كان عبّر عن عدم اعترافه بالسلطة القائمة.
وعلى الصعيد السنغالي، وصل إلى سدّة الحكم في داكار للمرّة الأولى ممثلٌ للاتجاه الرافض للوصاية الفرنسية، التي استمرّت منذ الاستقلال. ذلك الاتجاه، الذي كان يعترض على سياسات ماكي سال، وكان يطالب بعلاقة يكسوها الاحترام المتبادل مع باريس. حاول سال، وهو آخر ممثل للسنغال السنغورية، في آخر أيامه أن يعرقل الانتخابات، بعد أن نجح في التخلّص من عثمان سونكو، المعارض ذي الشعبية، الذي وجد نفسه ملاحقا قضائياً وممنوعاً من خوض الانتخابات، ولكنّ الشعب السنغالي لم يسمح بتمرير ذلك أو بإبقاء سال رئيساً بلا شرعية. هكذا، لم يكن هناك خيار سوى التنحّي بعد استكمال الفترة الرئاسية في حدّها الأقصى.
تزايدت الحماسة بعد فوز فاي، حتّى أنّ بعضهم ظنّ أنّ السنغال ستكون الضلع الجديد للمجموعة المتكونة من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، والتي انتقلت خلال العامين الماضيين من كونها حليفةً لفرنسا، إلى دول معتدّة بخياراتها، ومنحازة لمصالحها الوطنية، التي لا تكون، بالضرورة، متطابقة مع مصالح غيرها. التيار الذي يمثّله الرئيس الحالي، ذو حكمة وخبرة، وهو يدرك مخاطر خوض مواجهة مباشرة، أو الدخول في صراع غير محسوب العواقب مع القوى الكبرى، ولذلك، من المستبعد قيام فاي بخطوات فيها تحدٍّ صارخٌ على غرار ما قامت به النيجر أو بوركينا فاسو. المهمّ أنّ السنغال تغيّرت، وما عادت تلك المُرتهنة في قراراتها بشكل كامل للخارج.