من شَقِيَ بمحبّته استمرّ معه الشقاء
شقاء المحبّة، حتى وإن كانت رومانتيكية، يستمرّ معنا، حتى وإن جلسنا في آخر أعمارنا بجوار حديقة ورد صغيرة، وليس لنا ولا علينا، كأصفياءَ خرجوا من بيْن أنيابِها صالحين. هذا الصلاح الهَشُّ دائماً تفضحه تلك الأحلام التي تُباغِتُنا، فنرى العذاب، عذابات القلب فيما مضى، كما هي، وكأنّها لم تفارق عقب باب أحلامنا.
كنتُ أظنّ أنّ عُمْرَ المَودّة، مودّتنا، قد يصير باهتاً مع الأيام، وخاصة حينما تقسو تلك الأيام على قلوبنا وتصير المودّة شحيحة جدّاً في جنبات العالم، ويَصِلُ شُحّها حتى القرى والنجوع والأغنيات، حتى تصل إلى الحقول التي كانت سعيدة وخضراء.
هذا القلب الصغير الذي في حجم قبضة يد، كيف مع الذاكرة وفي معيتها! يعيد لنا تلك الهالات الجميلة التي حلّقنا بها من سنوات وراء عصافير أحلامنا، الأحلام تلك التي تأتينا لماماً، تؤكّد لي أنّ عُمْرَ المُحبّ في الشقاء لا ينتهي، حتى وإن أثمرت حديقته المُجتَمَعْيّة، حديقة الإنجازات، وحقّقت ورداً وياسميناً وإسمنتاً وكُتُباً، ستكون تلك المعارف مُتْعِبة في آخر العُمْر، وتظلّ شوكةٌ ما في شغاف القلب، شوكةٌ تهدهده وترعاه رغم ألَمِهَا، شوكةٌ صاحبته وتُصاحبه، ترعى أحلامه من بعيد، وكأنّها أخته التي ماتت ولم يتذكّر من ملامحها أيّ شيء، شوكةٌ كأنّها أخته التي تساندت على الحوائط قبل أن تُكْمِل السنة بأيام، حتى تجلس على رأس الدرب وحيدة، لأنّني في حجر أمّي وهي مع قربة اللبن ابنة شهرين إلا قليلاً، شوكةٌ كأنّها أخته وقد أوصته بكلّ الحمامات التي تشبه حُزْنَها تماماً، وهي جالسةٌ وحيدةً على الجسر، هي ليلى، وهي سعاد، وهي هناء، هي تلك الشوكةُ التي حَمَتْه وحَرَسَتْه من المذلّة، مذلّة قلبه.
هذه الشوكة الليّنة على القلب تكبر الآن معه في القلب، في آخر العُمْرِ، وتصير حديقة تَحْميه، والحديقة تُطلّ عليه في الأحلام في معيّة الذاكرة، هي شوكةٌ ما عالقة بوردة حياته، وكلّ يوم تقول له: "إنّ بئرك الأولى مازالت تصدّق هواجسك القديمة" وتؤمن بها أشد إيمان، وخاصة هواجسه عن أولئك الذين لم يخجلْ في يوم أن يميل على وردة ويسرقها من حديقة، وتظلّ الوردة في جيبه ويعود بها خجلان من الجامعة، ويركنها فوق غطاء الزير الخشبي، فتبتسم أمُّه، ويظهر من ابتسامتها الجير ما بين أسنانها، وهو يسكت ويحرث تلك الأحلام، ويسقيها بصمته وقسوته وحكمته.
تلك الشوكةُ التي استطاعت أن تحني قامته قليلاً من شدّة تمسّكه بحكمة التراب، وبأنّ قانون الورد فقط يَخِرّ من أصابع "الجناينية" عند أوّل خجل. شوكةُ ما صاحبه صحبة قلبه تماماً، وصحبة ذاكرته وحنو أحلامه عليه، شوكةٌ علّمته الكلام، وعلّمته الخجل، وعلّمته الأدب، وعلّمته القسوة على قلبه أيضاً، كي يمشى هكذا وحيداً.
يتذكّر الآن في أحلامه كالحديد تماماً وأشد، يتذكّر هواجسه ومحبّته القديمة لأولئك الذين كانوا معه أو تَخيّلَ أنّهم معه أو له أو أنّ قلوبهم له أو قريبة جدّاً من قلبه، وكأنّهم أولاد دربه الصغير، كأنّهم مثل يتامى قلبه، وكأنّهم أخته ليلى وقد كبرت في مكان آخر، ثم جاءتْه تبتسم. هم أولئك الذين أشاروا له من بعيد بكفوفهم وهو في خَجَلِه، وكأنّهم هم الذين غنّوا في شتاء بارد وجميل في أذنه: "يا صباح الخير.. يا صباح الخير.. يا أهل البندر"، ثم مشوا بعيداً من دون أن يُكملوا الأغنية، ومن دون أن ينهوها في قلبه.
لم أنتبه ساعتها إلى حرارة الغناء، وعطف هذا الغناء على خَجَلِي وقسوتي، ولم أسالها لماذا غنّت لي أصلاً، ثم مشت بعيداً وتركتني أقسو على نفسي كلّ يوم، كي أراها اليوم في كامل بهجتها تضحك معي بعدما غابت هناء، وإن كانت قد حكت لها عن مشاغلها، كانت وهي تحكي وكأنّنا هناك من خمسين سنة ندرس في الجامعة، وننتظر الشمس قبل أن يأتي دكتور عبد السلام بحقيبته "السامسونيت" في كامل أدبه وهندامه، هي سعاد برائحة "بلوڤرها"، وهي هناء برقّة قلبها وسؤالها الدائم عني، أنا الخجول.
طوت سعاد المسافة وجاءت، كيف أزاحت خمسين سنة إلا قليلاً وقد جاءت بنفس فستانها الأوّل؟ ... رغم أنّها كبرت وباتت تغطّي رأسها بـ "الإيشارب"، وقد منحتني "بالونة" بيضاء في عيد ميلاد هناء من ثلاث سنوات، ورَكَنَتْ الـ"بالونة" بجوار الشاي الذي أصرّت على إعداده، بعدما مَسَحَتْ عن عينيها دمعات ما بسبب قسوة صديق، بعد أن كبرت وصار دلالها في دمعها، فحكيت لها حكاية "البلوڤر"، فضحكت وكركر قلبها كطفل في الحفل.
قلبي هذا يرعى شوكتي ويسقيها، والشوكة في كلّ يوم تكبر معي، وتصير أكثر حناناً ورفقاً بي، أنا الخجول في أيّ حفل.