من غزّة إلى لبنان... تكنيك إرباك الذاكرة البصرية

12 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لم تترك إسرائيل حربها الوحشية على غزّة تبلغ عاماً بالتمام والكمال، فتشكّل ذكرى واضحةَ المعالم يحييها ما يلزم من المظاهرات، والبيانات، والبرامج التلفزيونية المعتادة في مثل هذه المناسبات الأليمة. حتّى هذا استكثرته إسرائيل على غزّة وأهلها في محاولة ليطويهما النسيان، فإذا بها تفتح جبهةً أخرى في جنوب لبنان، ظنّ كثيرون أنّها لن تحدث، وأنّها ستبقى علكةً يلوكها بنيامين نتنياهو للتخويف والتهديد لا أكثر، أو قد تتأخّر ونيران غزّة ملتهبة. لكنّ إسرائيل فعلتها، والمنطقة تترنّح تحت مفعول هول المشاهد القادمة من غزّة، وإسرائيل نفسها تترنّح، وهي أشبه بشخص في أشدّ حالات السُكْر والثمالة، يمسك سكّيناً حادّةً يطعن بها كلَّ من يعترض سبيله، ولا يمنح الشهود على جرائمه وقتاً لإسعاف من طعنه أولاً، أو البكاء عليه. وفي كلّ يوم يمضي تتراجع الشكوك في نيّات نتنياهو الذي يتصدّر مشهد الحرب بأنّه فقط يمارس الترهيب النفسي للمنطقة بقوله المُتكرّر: "سننتقل بعملياتنا وضرباتنا إلى كلّ مكان يُشكّل مصدراً لتهديد سكّان إسرائيل"، فقد بدا فتحُ جبهة أخرى على حدود إسرائيل ضرباً من الفنتازيا، لن تتحمّلها إسرائيل الواقعةُ تحت سهام أعين العالم، الذي انقلب شعبياً ضدّها في قارّاته الخمس. لكنّ حكومة الحرب فعلتها، وباستعراض أريد منه إحداثَ صدمةٍ نفسيةٍ لدى المتشكّكين خصوصاً، والمتردّدين في دعمها بدرجة ثانية، ثمّ سارع نتنياهو إلى إعلان نيَّتَه "تغيير معالم الشرق الأوسط" برمّته، وهو لا يبالغ ولا يُهدّد بإعلان هدفه الأخير.

اليوم، وبعد عام من حرب غزّة الموغلة في الدموية والتوحّش، يتأكّد أنّ "تغيير معالم المكان" يمثّل لدى نتنياهو هوساً واستراتيجيةً وأداةً وهدفاً، في آن معاً. طبّقها في غزّة، ولم يشفِ غليله تماماً بعد، ويطبّقها الآن في جنوب لبنان وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، وحيثما يوجد حزب الله، سواء كان وجوداً مادّياً ملموساً أو وجوداً رمزياً. قد لا يبدو ذلك جليّاً للمتابع حالياً، ولكنّها خطّته التي يمضي فيها بإصرار، ويشتّت الانتباه عنها بين الحين والآخر، بالعودة إلى غزّة وقصف ما بقي شبه قائم فيها، أو إلى الضفّة الغربية ومُخيَّماتها البائسة. في الحقيقة، يرتبط لدى رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية هدف القضاء على المقاومة مُجسَّدةً بشكل رئيس في حركة حماس، بالقضاء على المكان الذي تمارس فيها مقاومتها، وبالقضاء على الحاضنة الاجتماعية والبيئة التي ينتمي إليها عناصرها، البيئة التي يخرجون منها لتنفيذ عملياتهم ويعودون إلى حضنها ليذوبوا فيها، ويصبح كلٌّ منهم ابناً أو أخا أو أباً في كلّ أُسرة غزّية، وهو أمر مثير للجنون عند مهندسي الحرب المُعلَنة عليهم وعلى منفّذيها. لذلك، وبعد فشل مرحلة الاصطياد الفردي لعناصر المقاومة، وبعدما تأكّدت بشكلٍ قاطعٍ استحالةُ القضاء على "حماس" والمقاومة فكرةً ومنهجاً وأيديولوجيا، عمد نتنياهو إلى إنزال عقابٍ شديدٍ يوازي شدّةَ غضبه ويأسه أمام مقاومةٍ مُتجذِّرةٍ تكاد تصبح جيناً من الجينات المتوارثة لدى سكّان غزّة. عمد إلى محاولة محو الذاكرة البصرية المتعلّقة بالمكان، وإلى طمس أيّ أثرٍ يشير إلى أنّ المقاومة حيّةٌ ترزق، يمكن الاستدلال على وجودها من خلال مؤسّساتها ومقارّها وشخوصها، بوجوههم وأسمائهم. لذلك، اكتشف العالم مثلاً أنّ عائلات بأكملها أبيدت واختفت من الوجود، وبالتي من السجلّات المدنية، أمّا من بقي حيّاً، فسيقضي بقيّة حياته بعاهة ستذكّره باستمرار بأنّها عِقابٌ على الانتماء إلى بيئة مقاومة هي الأشدّ بأساً والأطول نفساً. لم يستنبط نتنياهو أداةً جديدةً بشعةً ومتوحّشةً في الحروب، إذ توجد سوابق لاستخدامها في التاريخ القديم والحديث، سواء كان الخصم المراد محوه كياناً ذا وجود مادّي أو حدثاً فاصلاً في تاريخ بلد وشعب. فرأينا في أكثر من عاصمة ومدينة، ساحاتٍ تعرّضت معالمها للتغيير بشكل يُحدِث صدمةً للبصر والذاكرة وللعلاقة بينهما، وهو الهدف المنشود من هذا التكتيك. وهذا ما تنشده حكومة التطرّف الإسرائيلية، التي برهنت أنّها تستلهم من أحداث التاريخ أقساه وأبشعه، وتضيف إليه ما يتيحه لها العصر بأدواته المتطوّرة تكنولوجياً وإعلامياً.

يكاد وصف القصف والاستهداف بـ"العشوائي"، وتقييم ما شهدته غزّة (ولا تزال) بأنّه "فشل في تحقيق الأهداف"، أن يكونا قاصرَين، من منظور بعيد المدى ودقيق، يضع غزّة ساحةَ معركةٍ في خانة خاصّةً جدّاً تختلف عن ساحات الحروب الأخرى في جغرافيّتها ونسيجها الاجتماعي والفكري، ومكانتها المتقدّمة في خريطة أذرع المقاومة في المنطقة، بما يعني أنّ القضاء عليها وتحويلها أكواماً من الركام يجعل وجود بقية الأذرع بلا معنى، و بلا مبرّر تقريباً في ذهن واضع استراتيجية الحرب الإسرائيلية. لذلك، ينظر إلى مُجرَّد التدمير ومراكمته تحقيقاً للهدف، مع ما رافق هذا المشهد الدامي من تقديرات لإمكانية الحياة في غزّة مستقبلاً أو لعدد السنوات التي ستتطلّبها إعادة الإعمار فيها، وللمبالغ المكّوكية التي ستحتاجها، وللأطراف التي ستجرؤ على الإقدام عليها.

بعد عام من حرب غزّة يتأكّد أنّ "تغيير معالم المكان" يمثّل لدى نتنياهو هوساً واستراتيجيةً وأداةً وهدفاً، في آن معاً

وبناء على نموذج غزّة المدمّرة، وفكرة استئصال المقاومة من جذورها أينما كانت، تمرّ حكومة الحرب الإسرائيلية إلى الهدف الموالي في لبنان، و لولا المسافة والجغرافيا المختلفة، والاستعداد للتصدّي الذي أظهره حزب الله، لرأينا منذ الأسبوع الأول مشهداً افتتاحياً يحاكي غزّة وهي تحت القصف المُركَّز الشديد في أيامه الأولى، ولكنّ هذه التباينات لم تمنع نيّة المحو والاستئصال التي تحرّك آلة الحرب النفسية والعقائدية والمادية بيد إسرائيل. المحو والاستئصال بدآ منذ عملية "البيجر" الصادمة، بقتل من قُتِل من جرّائها من عناصر حزب الله وعائلاتهم، ومحاولة عزل من نجا منهم عن دائرته الاجتماعية والحزبية والعسكرية المقاتلة، ثمّ توسيع الدائرة لتشمل بالعزل ودقّ الأسافين بقيَّة مكوّنات الشعب اللبناني بطوائفه، بشكل يظهر فيه حزبُ الله، وكلُّ من يدور في فلكه، حاملاً للموت أولاً، وسبباً في الهلاك والدمار للبنان برمّته ثانياً وخصوصاً. صحيح أنّنا لم نرَ أكواما من الركام (ولا نتمنّى أن نراها)، ولكن رأينا سكّان القرى المتاخمة لشمال إسرائيل يغادرونها تباعاً عبر الأودية والطرقات، ليتركوها خاويةً وراءهم على أمل العودة، وهو مشهد يحيل مرّة أخرى إلى هدف إحداث الفراغ والقطيعة مع البيئة الأصلية، الذي تضعه إسرائيل نصب عينيها، وتنفّذه بطرق شتَّى، حسب الظروف وطبيعة المرحلة، وهو ما بدا أكثر وضوحاً يومَ إعلان عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في ضاحية بيروت الجنوبية، التي انهار فيها، وفي لمح البصر، مُربَّعٌ كاملٌ يضمّ تقريباً ستّ بنايات ذات طوابق عديدة، كانت بمثابة صرح من صروح الحزب في ضاحيته المزدحمة والمتلاحمة، وفي ذلك التدمير الهمجي، محوٌ لجزءٍ بصري ورمزي من كيان الحزب، إذ يكفي أن يُقال بعد سنواتٍ "كان يوجد هنا كذا و كذا"، في صيغة الماضي. رأينا أيضاً لبنانيين من الجنوب ومن الضاحية يشدّون الرحال إلى مناطقَ قريبةٍ في سورية، أو ينزلون سلالم الطائرات في مطارات عراقية، في مشهد معاكس لما رأيناه إبّان الحرب السورية، و قبلها حرب العراق، حين كان اللجوء المؤقّت أو الدائم إلى لبنان ودولٍ أخرى في المنطقة، وبعيداً عن لعبة البروباغاندا، التي تكرّر هذا المشهد مراراً في اليوم الواحد، فإنّ الانطباع الأول المخيف هو أنّ لبنان الصغير وشعبه قليل العدد والمنتشر أصلاً في شتَّى بقاع العالم، يتعرّض لعملية إفراغ.

لو كان الأمر بيد إسرائيل، وهي التي تردّد ليلاً ونهاراً اسم حزب الله من دون لبنان وتحرص مع حلفائها على توصيف حربها عليه بعملية "محدودة"، لحصلت على اسم وموقع كلّ مبنى وكلّ عمارة وكلّ بيت وكلّ مكتب أو مدرسة أو مستشفىً، أو أيّ مقرّ تابع لحزب الله في أيّ منطقة وشارع وزاوية في لبنان، لتستهدفه وتدمّره وتحولّه تراباً بلا ملامح، حتّى يتسنَّى لها من خلال هذا الفعل، أو هكذا تأمل، القضاء على فكرة "حزب الله"، بالرؤية ذاتها والنهج ذاته: تعمية الذاكرة البصرية أولاً، ومن ثمّ، ومع مرور الوقت ومراكمة الاستهدافات والأهداف، تغييبه مادّياً وفكرياً، وهو الوجه الآخر لسياسة "كيّ الوعي" التي مارستها مع القضية الفلسطينية ككل.

يحتاج نتنياهو أن يفهم أنّ الذاكرة تعيد ترميم ذاتها فتصبح أقوى كلّما انتُزِع بالقوّة والعنف ما انطبع فيها

تصف حكومة نتنياهو حربها في لبنان بالعملية الدقيقة، في استعارة من مشهد عملية جراحية لاستئصال ورم منتشر في جسد يحرص الجرّاح، وهو يحاول إزالته، ألّا يؤذي أيَّ عضوٍ آخرَ في جسم المريض، وهي استعارة منافقة، تطمئن اللبنانيين من غير بيئة حزب الله بأنّها حريصة على سلامتهم، وهي تفعل ما تفعل "من أجلهم" أيضاً. وليس الأمر أكثر من حقنةٍ مهدِّئةٍ ذات مفعول مؤقّت. فخريطة "الشرق الأوسط الجديد"، التي يلوّح بها نتنياهو في المحافل الدولية، تكذّب عبارات الطمأنة تلك، ويكذّبها التلويح المُتكرّر للعرب، ولكلّ من يفكّر في مواجهة إسرائيل، بأن "ينظروا إلى غزّة ولبنان" قبل التهوّر، وتكذّبها رسالته الصريحة للبنانيين التي يقول فيها، متصنّعاً التأثر أنّه يتذكّر "يوم كان لبنان لؤلؤة الشرق الأوسط، غير أن حزب الله حوّله مستودعَ ذخيرةٍ وأسلحةٍ وقاعدةً عسكريةً لإيران".

نتنياهو محاط بمستشارين من شتَّى الاختصاصات، وإن كان من بينهم من يفهم التركيبة الذهنية والنفسية للبشر الطبيعيين، حتّى لا نقول الأسوياء، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط، فالأجدر أن يخبروه (وهو المنفصل تماماً عنه) أنّ الذات البشرية تتمسّك عادةً بما يريد الخصم أن يسلبها إياه، وكلما بذل جهداً أكبرَ لسلبه إلى حدّ الإجرام في حقّها، ازداد اليقين بأنّه شيء لا يُقدَّر بثمن لا يمكن التفريط فيه، وبأنّ الذاكرة تعيد ترميم ذاتها فتصبح أقوى كلّما انتُزِع بالقوّة والعنف ما انطبع فيها، وأنّ الأماكن مهمّةٌ، ولكنها ليست كلَّ شيء في تشكيل الوعي وتمييز الأحداث وحفظ محطّات التاريخ. ولمن يرى في نتنياهو متعجرفاً مجنوناً، يهدّد بكل شيء، ولكنّه لا يفعل كلّ ما يهدّد به، يقدم لنا التاريخ نماذجَ مثله، نفّذوا ما هدّدوا به وغيروا مجرى التاريخ والخريطة الجغرافية، ولا يبدو أنّه توجد قوّةٌ فعلية مستعدّة الآن لإيقافه، عدا حدْس بأنّ الفاعلين يتفرجّون عليه عاجزين وهو يهرول نحو نهايته. و قد يأخذ معه بعضهم وهو يهوي.