من قتل شيرين أبو عاقلة؟
بعد مرور أكثر من شهرين على وقوع الجريمة المشهودة، بالصوت والصورة، وفضّ كل التباسٍ محتملٍ بشأن هوية القاتل المحترف، يثير السؤال أعلاه عن ماهية قاتل أيقونة الصحافيات الفلسطينيات، شيرين أبو عاقلة، سؤالاً مقابلاً، فيه ضئيل من الاستهجان وربما الشك، في الوهلة الأولى، بشأن النيات والدوافع التي تكمن خلف هذا الطرح المشوب بالسذاجة، خصوصاً لعدو شيرين الوحيد، وإن أي تشكيكٍ بالرواية المتداولة يقدّم خدمة مجانية لصالح القتلة الواغلين في دم إخوة شيرين وأخواتها على مدى العقود الطويلة الماضية، والمتنافسين بين بعضهم في من قتل أكثر من الآخر في فلسطين ولبنان وسورية.
غير أنّ السؤال ذاته لا يزال مطروحاً لدى بعضهم في أوساط أميركية وأوروبية قليلة تدّعي ضرورة قطع الشك باليقين، وتجادل في المحسوس، وترغب في قرارة نفسها بالحصول على أي بيّنة تلائم ربيبتها في الشرق الأوسط، وتبرّر لها اقتراف هذه الجريمة الكاملة بحق صحافية تتسلّح بالكاميرا والميكروفون فقط، وتؤدّي واجبها المهني بكلّ إتقان، كله تحت اسم إجراء تحقيق مستقل وشفاف، قبل إصدار أي حكم ضد من يكون قد قارف هذه الفعلة الآثمة بكلّ المعايير...
لدينا في هذا الصدد مثالان ساطعان على مراوغة هذه الأوساط المريبة، التي تبنّت ولداً شقياً وقليل التربية، اسمه دولة إسرائيل، إلا أنها تواصل احتضانه على طول الخط، وتتسامح معه طوال الوقت، من دون لوم ولا تنبيه، وهما محكمة الجنايات الدولية، التي تضع في أذنها اليمنى طيناً وفي اليسرى عجيناً، وتتجاهل، عن سبق إصرار، كلّ التقارير الإخبارية الموثقة، وسائر القرائن والبيّنات القطعية عن هوية القاتل، إلا أنها تغضّ أبصارها عن الجاني، فيما يهرع مفوّضها العام، كريم خان، إلى أوكرانيا (وهذا يحسب له) لتوثيق الجرائم المرتكبة من الجيش الروسي.
ولا يتوقف الأمر عند محكمة الجنايات التي تشاطرت على الأفارقة كثيرا، وتجرّأت على صربيا ذات مرة، بل يتعدّاه إلى الولايات المتحدة، التي شكلت، تحت ضغط الرأي العام الأميركي، لجنة تحقيق فنية لفحص الرصاصة القاتلة، في محاولةٍ اتضح لاحقاً أنها لإغلاق ملف شيرين الذي فتحته أكبر وسائل الإعلام في واشنطن، حيث أجمعت كلها على دعم تهمة القتل العمد، وحمّلت جيش الاحتلال كامل المسؤولية، كما طالبت إدارة جو بايدن بالانخراط في التحقيق، تمهيداً لجلاء الحقيقة، ومن ثمّة المساءلة.
غير أنّ هذه اللجنة المختصة وصلت إلى القدس المحتلة، وتسلمت الرصاصة المحتفظ بها لدى السلطة الفلسطينية، على شرط عدم تسليم الدليل المادي هذا إلى أيدي قوات الاحتلال، ليتّضح، في ما بعد، أن اللجنة الأميركية قد أشركت خبراء إسرائيليين في عملها، ثم أصدرت تقريراً كتبه المحققون من الطرف الجاني، شكّكوا فيه بهوية القاتل، الأمر الذي يمكن القول معه، بتلخيص شديد، إنّ الغاية النهائية من اللجنة الأميركية كانت ترتيب مهرب نجاة من تهمة القتل مع سبق الإصرار، وبالتالي، طيّ هذا الملف مع مرور مزيد من الوقت.
ولعلّ السؤال الموجع هنا: ماذا لو تمت إدانة الدولة العبرية باقتراف هذه الجريمة؟ ومن سيجبرها على دفع الثمن، إذا كانت الولايات المتحدة تواصل دعم حليفتها الاستراتيجية في المنطقة، ظالمة أو مظلومة؟ ثم ما هو هذا الثمن الذي قد لا يتعدّى إبداء الأسف أو تقديم الاعتذار في أحسن الأحوال؟ الأمر الذي يدعو إلى الإحباط، جرّاء كلّ هذا التهافت العربي الرسمي على التطبيع مع دولة الاحتلال.
في ختام هذه المطالعة المبنية على السؤال في العنوان أعلاه، أذكر، على هامش هذا النص، أنّ من حسن الحظ ومن محاسن المصادفات، أنّ شيرين كانت قد قرأت مقالاً نُشر في هذه الزاوية قبل أسبوع من استشهادها، بعنوان "ثلاث مقدسيات يرفعن الرأس" في تعليق دافئ عن كفاءة فريق قناة الجزيرة النسائي العامل في الضفة الغربية (شيرين وجيفارا ونجوان) وأنّ أولاهن وقفت، في حياتها، على ثناءٍ لا يقال إلا بعد الممات، وعلى كلام سرّها، وربما تبادلته مع زميلاتٍ لها في المهنة، وفق ما نقله لي من رام الله صديقي العتيق من أيام المدرسة الإبراهيمية في القدس، اللواء المتقاعد واصف عريقات، الذي يتابع هذه الزاوية، ويتصل هاتفياً بصاحبها، معقّباً في بعض المرّات.