من كواليس أرشيف ذاكرة فلسطين
تورد أدبيات علم الأرشيف قائمة تطول عن أهمية الأراشيف وضرورتها، فهي ذاكرة المجتمعات والدول، والدليل على وجودها ونشأتها وسيادتها، وتراث الأمم المعبّر عن هُويّتها، ومرصد تطورات مساراتها السياسية والاجتماعية والإدارية، وحافظة حقوق أفرادها وجماعاتها، ومخزن المواد الأولية والبيانات المسجّلة والإحصاءات التي تؤرّخ للحوادث وتمنحها صبغتها القانونية والشرعية، ومستودع الأدلة والشواهد الذي يتزوّد منه الباحثون لرفد دراساتهم وإخراج الحقائق التاريخية من إطارها السردي المفكك ووضعها في السياقات المادية للوثائق المحفوظة. لكن إدراك هذه الفوائد، والاهتمام المبكّر بعمليات الأرشفة، ومراكمة الخبرات في حفظ السجلات والوثائق، لم يمنع مشكلات ضياع المواد الأرشيفية أو تلفها التي ظلت تواجهها الأراشيف في كل مكان بفعل العوامل الميكانيكية والكيميائية والطبيعية المايكروعضوية، خصوصا قبل عصر التكنولوجيا والمعلومات. وإذا تحدّثنا عن الأراشيف العربية اليوم، علينا أن نوسّع دائرة المشكلات لتشمل الإهمال وضعف الاهتمام بفرز المواد وتصنيفها وترتيبها ورقمنتها، وأخيرًا عدم إتاحتها لجمهور الباحثين. أما التراث الأرشيفي الفلسطيني فله خصوصيته التي ترتبط بخصوصية الحالة الفلسطينية، إذ يواجه الفلسطينيون، منذ 75 عامًا، استعمارًا إحلاليًا يسعى إلى محو وجودهم ومحو ذاكرة من تبقى منهم بمصادرة أرشيفاتهم، كلما لاحت له فرصة أو واتاه ظرفٌ أو عرضت له مناسبة، ما حال دون تأسيس أرشيف وطني فلسطيني يُرجَع إليه، فضلًا عن بحث مشكلاته ومناقشتها على غرار ما يطال غيره من الأراشيف.
تشتت الأرشيف الفلسطيني مع تشتت الفلسطينيين في بقاع الأرض، ولا تزال حكايات ضياعه تُروى، يأتي بعضها في سياقاتٍ مؤسّسية، وبعضها الآخر يرد في سياق محاولات فردية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرشيفات شخصية خاصة، وقد صار جزء من هذه الحكايات معروفًا لدى قطاع واسع من القراء، منها قصة أرشيف مؤسّسة السينما الفلسطينية الذي نُقل عام 1982 (حين أُخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان) إلى مقر السفارة الفرنسية في بيروت، ومع تفاقم الحرب الأهلية في منتصف عام 1985، أُغلقت السفارة، ونُقل إلى مسجد الجامعة العربية ثم إلى مستشفى المقاصد، ثم أودع مخزنًا للبضائع يملكه أحد التجار الذي ما لبث أن اعتقلته الأجهزة الأمنية السورية، ثم حوصرت المخيمات واختفى الأرشيف.
عثر أفراد من فريق العمل مصادفة، عند أحد باعة الكتب المستعملة في عمّان، على مسوّدات كتب كتبها بخط يده أحد قيادات حركة القوميين العرب المعروفين
أما الحالات الفردية، فمنها ما يُروى عن أرشيف الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي فُقد بعضه، حين أودع عددًا من حقائبه التي احتفظ فيها بمسوّدات قصائده الأولى ومجموعة من الوثائق الخاصة به عند أحد أصدقائه، قبل رحيله من القاهرة، ففُقدت اثنتان منها في المرّة الأولى، وفُقدت أخرى كان قد تركها عند إحدى العائلات الفلسطينية التي تعيش هناك، وصدف أن ربّة هذه العائلة العارفة بشأن الحقيبة أُصيبت بمرض بفقدان الذاكرة، وحين عاد يسأل عنها مرّة أخرى أنكرتها، ثم إنها بعد وفاتها، وكان شاعرنا قد توفي قبلها، عثرت العائلة على تلك الحقيبة، وتبيّن أنها تحتوي لوحة تحمل رسمًا لدرويش بريشة التشكيلي إسماعيل شموط، وهي اليوم محفوظة في متحف محمود درويش في رام الله.
قصص كهذه يرويها اليوم القائمون على مشروع أرشيف ذاكرة فلسطين، التابع للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، منها مثلًا قصة أوراق الهيئة العربية العليا وأرشيف الحاج أمين الحسيني الذي صادرته المخابرات المصرية، بعد خلاف الحسيني مع الرئيس جمال عبد الناصر، ثم قرّرت إدارة المخابرات بعد سنوات التخلص من كومة الأوراق المتراكمة في مستودعاتها، فباعته لـ "تاجر خردة" صدف أنه من أصول غزاوية، وقد أدرك فور اطّلاعه على الأوراق أهميتها، فسلمها إلى أبناء عبد القادر الحسيني الذين أودعوها في مرآب منزلهم، وظلت هناك سنوات أخرى، إلى أن قرّروا الانتقال إلى منزل جديد، فسلموها إلى القائمين على المشروع عن طريق غازي الحسيني.
وفي قصة أخرى، عثر أفراد من فريق العمل مصادفة، عند أحد باعة الكتب المستعملة في عمّان، على مسوّدات كتب كتبها بخط يده أحد قيادات حركة القوميين العرب المعروفين. كما أنهم ينقلون قصصًا عن ظروف ضياع مواد أرشيفية مهمّة، منها أن أحد السياسيين الفلسطينيين قرّر، حين اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان عام 1982، البقاء في بيروت، وتوجّه إلى بيت المصوّر الفلسطيني هاني جوهرية، فوجده مليئًا بالصور والملصقات، فقرّر إتلافها خوفًا من وصول الجنود الإسرائيليين إليها. أمر مشابه، وللأسباب نفسها، حدث مع أحد مؤسّسي حركة القوميين العرب، إذ أحرق، خلال أيام الاجتياح، ما كان لديه من أعداد نشرة "شباب الثأر" التي كانت تصدرها الحركة في أواسط خمسينيات القرن الماضي.
دعوة إلى الذين يحتفظون بمواد أرشيفية ربما توارثوها عن أجدادهم لاستشعار أهمية جمع هذه المواد في مؤسّسات مختصة
إذا كان ثمة ما تقوله جميع هذه الحكايات عن ضياع الأرشيف الفلسطيني فهو أن حاجة ملحّة لا تزال قائمة لجمع شتاته وحفظه، وهذه هي المهمّة التي اضطلع بها القائمون على مشروع ذاكرة فلسطين على مدى سنواتٍ من العمل المتواصل، تمكنوا خلالها من رقمنة ما يزيد على نصف مليون صفحة من الوثائق المتنوّعة، وعشرات التسجيلات الصوتية والمرئية، ومئات الصور، توزّعت بين المجموعات الخاصة ومجموعات المنظمات السياسية والهيئات المحلية والجمعيات الأهلية والنقابات، والوثائق العربية والدولية والصهيونية، إضافة إلى الصحف والمجلات التي أُرشف منها حتى اللحظة ما يزيد على 2500 عدد موزّعة على 50 صحيفة ومجلة فلسطينية. ولا تزال عشرات آلاف الصفحات والصور تنتظر رقمنتها، منها مجموعات مهمة لعدد من قيادات الثورة الفلسطينية، ومجموعة تناهز العشرين ألف صورة فوتوغرافية التي أشرف على جمعها إسماعيل شمّوط، عندما كان مديرًا لدائرة الثقافة والفنون في منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تسجّل تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ تأسيس المنظمة وحتى منتصف الثمانينيات.
يضطلع بعملية الأرشفة في مشروع ذاكرة فلسطين فريق مدرَّب ومتكامل، يضم مرقمنين ومؤرشفين ومحرّرين ومترجمين، يتولّون مهمات فرز الوثائق ورقمنتها، ثم تصنيفها وترتيبها وترميزها، بعد ردّ الأصول إلى أصحابها، ثم الاطلاع على كل وثيقة على حدة وعنونتها وإضافة ملخصات مختصرة لمحتواها، واختيار الكلمات المفتاحية المناسبة لها، لتمكين الباحثين من الوصول إليها بسهولة ويسر. كما يواصل المشروع استقبال الأراشيف الخاصة، ويتتبعها في مظانّها، وهذه المقالة دعوة إلى الذين يحتفظون بمواد أرشيفية ربما توارثوها عن أجدادهم لاستشعار أهمية جمع هذه المواد في مؤسّسات مختصة، علّنا نبلغ ذلك اليوم الذي نمتلك فيه أرشيفنا الكامل والمتماسك الذي يدعم روايتنا التاريخية ويخدم قضيتنا العادلة.