من ليس معنا فهو معادٍ للسامية!
دعا رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، جيرار لارشيه، ورئيسة الجمعية الوطنية، يائل برون بيفيه، إلى مسيرةٍ في باريس بعنوان "الجمهورية ضد معاداة السامية"، والذي تصدّر المسيرة محمولا من رؤساء سابقين مثل نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند ورؤساء وزراء سابقين ووزراء برفقة رئيس المؤسسات اليهودية وحاخام أهم المعابد الباريسية. وقد استجابت للدعوة أحزاب اليمين واليمين المتطرّف واليسار، ومنهم حزب التجمّع الوطني ورئيسته مارين لوبان التي ما تزال سمعة والدها مؤسّس الحزب المتهم بالعنصرية ومعاداة السامية تلاحقها، رغم تبرئها منه وإعلان تطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال. ورفض حزب "فرنسا الأبية" السير في تظاهرة، يشارك فيها حزبٌ مؤسّسه معاد للسامية وللأجانب والمهاجرين، ورفض نوابه المشاركة في تظاهرة لا تذكر باقي أنواع العنصريات، وخصوصا الإسلاموفوبيا، كما رفض مسؤول مسجد باريس المشاركة للأسباب نفسها، ولاتهام المسلمين المتزايد إعلاميا بمعاداة السامية.
ورغم التحشيد الحكومي لهذه المسيرة واعتبار معاداة السامية من قيم الجمهورية واحترام لمبادئها، فإن الحضور المنشود لم يكن كما التوقعات بخروج شعبي واسع للمشاركة، ما خيّب كثيرين، وخصوصا من الإعلاميين، حتى إن إعلامية من إحدى القنوات تكلمت بأسى عن حضور غير "معروف العدد"، لا وجود للشباب فيه ويغلب عليه أصحاب العمر الثالث من كبار السن والمتقاعدين، في حين نشرت مواقع إعلامية أعدادا متناقضة لعدد المشاركين تراوح بين خمسين ألفاً ومائة ألف شخص. وهذا ما دعا جان لوك ميلينشون رئيس حزب فرنسا الأبية السابق والمرشح الرئاسي في الانتخابات الأخيرة إلى القول إن كل هؤلاء قد اتحدوا ليقفوا مع قصف غزّة، ووصف المسيرة بالفاشلة، معتبرا أن الفرنسيين الذين يقفون ضد معاداة الساميّة هم غالبية.
وقد أثارت مشاركة التجمّع الوطني في هذه المسيرة مليشيا الدفاع اليهودي المتطرّفة، والتي تستعمل الترهيب لكل من يعارض سياسة دولة الاحتلال أو ينتقدها وقام أعضاء منها بعمل حزام صد كي لا تشارك مارين لوبان وأعضاء حزبها في السير مع الأحزاب الأخرى، وجرت اشتباكات أدت إلى تدخل الشرطة لفك الاشتباك ومنع هجمات ربما تكون خطيرة جدا تعرف بها هذه المليشيات بسبب سوابقها في الاعتداء على المتظاهرين، ونشطاء الجمعيات الداعمة لفلسطين. وقد تكرّر ذلك في ذهاب هؤلاء إلى التظاهرات التي دعا إليها حزب "فرنسا الأبية"، بهدف الاعتداء عليهم وإفساد مسيرتهم وعدم مشاركتهم في المسيرة التي دعت لها الحكومة، رغم أنّهم رفعوا شعار معاداة السامية!
شيئا فشيئا ومع التعاطف المتزايد للحق الفلسطيني في فرنسا، انتقلت تهمة معاداة السامية التي اجترت لسنوات وعقود ضد اليمين المتطرف
هذه هي التظاهرة التاسعة التي تنظم في فرنسا منذ عام 1980 ضد معاداة السامية، ومنذ التسعينيات أخذت هذه التظاهرات منحىً مختلفا، إذ أصبحت موضوعا ومناسبة للتوظيف السياسي والفوز في الانتخابات. إذ وخلال الفترة الرئاسية الثانية للرئيس ميتران تم تشريع "التصويت النسبي" الذي سمح بانتشار أفكار حزب الجبهة الوطنية شعبيا كحزب سياسي، ما فسر سياسيا بأنه إجراء لضرب اليمين التقليدي المنافس الوحيد للحزب الاشتراكي وقانون يساهم بتفتيته. وأبرز مثال لهذه التظاهرات التي خرج فيها الرئيس فرانسوا ميتران يتوسط أركان الحزب الاشتراكي ويسير معهم أيضا اليمين التقليدي متمثلا بالرئيس الراحل جاك شيراك. وكانت التظاهرة الأولى التي يخرج فيها رئيس جمهورية، وذلك بعد حادثة تدنيس قبور اليهود في مدينة كاربنترا في جنوب فرنسا التي اتهم بتنفيذها حزب الجبهة الوطنية، ووجهت لجان ماري لوبان ولحزبه أصابع الاتهام والتحريض على عمليات معاداة السامية. وقعت العملية في مايو/ أيار العام 1990 بعد هبوط شعبية الرئيس ميتران والحزب الاشتراكي في استطلاعات الرأي هبوطا كبيرا ليفوز ميتران لفترة رئاسية ثانية فيما بعد. وقد تبين بعد سنوات من "التحقيق المتباطئ" والإعلام والدعاية الواسعة ضد حزب الجبهة الوطنية والإجراءات الرسمية المتشددة لمحاربتها في شتّى المستويات، وبالأخص في مستويات التعليم المختلفة، أن من اقترف تلك العملية هم مجموعة "الرؤوس المحلوقة".
شيئا فشيئا ومع التعاطف المتزايد للحق الفلسطيني في فرنسا سواء من الفرنسيين العرب أو من الشعب الفرنسي، انتقلت تهمة معاداة السامية التي اجترت لسنوات وعقود ضد اليمين المتطرف، حتى قرف منها الفرنسيون لتتحول بعد عام 2001 وبقوة أكبر من السابق ضد الفرنسيين من العرب والمسلمين، حيث منعت في عهد ساركوزي كل الجمعيات الداعمة لفلسطين تقريبا ومنع الكلام عن القضية الفلسطينية في الصحف والإعلام، وأنيطت مهام الكلام والتحليل وإبداء الآراء للأبواق الصهيونية ليحتلوا فضاء الإعلام مصدرا وحيدا في كل النقاشات الدائرة حول منطقتنا. بل إن مجموعة ممن يسمّون فلاسفة وكتابا وقّعوا عريضة تمنع استقبال الناشطين في أي قاعة ومكان لتنظيم نشاط له علاقة بفلسطين، إلى أن يقوم وزير الداخلية الحالي بمنع وتجريم الدعم للفلسطينيين ومنع الكيفية ورفع العلم الفلسطيني.
إن المسيرة التي دعت لها ونظمتها الحكومة الفرنسية دون تفويض كامل من النواب، بحجة معاداة السامية، تتجاوز كل ما سبق، فهي محاولة واضحة من أركان الدولة لاحتواء الانتشار المتزايد والتعاطف مع الشعب الفلسطيني ومع غزة، إذ تبدو هذه المسيرة ردعا يستخدم مقولة "قيم الجمهورية" ضد الفرنسيين، وكل من تسول له نفسه للتصريح عكس ذلك من نواب وأحزاب ونقابات، واعتبار كل من لا يقف مع دولة الاحتلال وجرائمها معاديا للسامية. بهذه المسيرة المخصّصة لمكون واحد، ترفع حكومة الرئيس ماكرون حائطا لصد انهيار عمل هائل بدأ منذ سنوات لاجتثاث تعاطف الشعب الفرنسي نهائيا بالترهيب بتهمة معاداة السامية.
ليست المشاركة الضئيلة للشعب الفرنسي في المسيرة التي نظمها أركان الدولة فشلاً للتحشيد فقط، بل هي رد فعل صادق لشعب واع
رفض حزب فرنسا الأبية للمشاركة في هذا النوع من التظاهرات، ورفض ممثل المسلمين أيضا، يظهر أن الحكومة تأخذ جانبا مكونا من الشعب فقط، وتدين مكونا آخر هو بريء من التهمة التي تُنسب له. هذه المسيرة الحكومية هي بمثابة إعلان رسمي ضد 10% من الشعب الفرنسي، وممارسة للضغط عليه كي يلتحق بالدعاية الصهيونية التي تحرّض على العرب والمسلمين وعلى دعم الشعب الفلسطيني، في تناقض مع الدستور ومع قيم الجمهورية ومع حرية التعبير التي يتحجج بها المشاركون في التظاهرة. إن الادّعاء أن أرقام الحوادث ضد معاداة السامية في فرنسا قد انفجرت منذ السابع من أكتوبر تفتقد للمصداقية، إذ وبحسب الاستطلاع السنوي الذي تقوم به لجنة مكافحة العنصرية ومعاداة السامية والإسلاموفوبيا، فإن تطور وتجدد معاداة السامية بقي في الأوساط والطبقات لثلاثينيات القرن الماضي، بما يعني أنه لا علاقة لا للمسلمين ولا لليسار بها، وحتى الكلام عن زيادة عدد الحوادث يتناقض بين فكرة زيادة أعمال معاداة السامية، والقول إن الأفكار المسبقة حول اليهود قد تراجعت. وما يؤكد هذا التناقض أن الإعلام ومنذ عملية كتائب القسام يصرخ ويكرّر انفجار معاداة السامية. لكن من ينصت لتفاصيل هذه العمليات يجد أنها حوادث عادية جداً وهي تهويل متعمد يراد به لجم الناس، هذه هي الحوادث الخطيرة التي نشرها الإعلام: مرور عربي أمام معبد يهودي، تبول شخص على حائط مستشفى، احتراق شقة عائلة يهودية (استخدمت غالباً هنا للحصول على التأمين)، إعلان شابة يهودية من مدينة ليون أن شخصاً كتب كلمات على بابها، لم يُذكر حتى نوع هذه الكلمات...
ليست المشاركة الضئيلة للشعب الفرنسي في المسيرة التي نظمها أركان الدولة فشلاً للتحشيد فقط، بل هي رد فعل صادق لشعب واع، غالبيته ضد العنصرية يرفض المشاركة مع حكومته التي تكيل بمكيالين، وتتهم من ليس معها بمعاداة السامية، في حين أنها دعمت إلى قبل أيام ما يبث من كل شاشات العالم من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والفظائع التي يقترفها جيش دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.