من هو المُتَحَضِّر؟
يُلاحظ أحياناً أن ثمَّة ميلاً لدى بعض العرب إلى المبالغة في جلد الذات وإطلاق تعميمات وأحكام قاسية، إن لم تكن فظّة، في حقّ أنفسهم. هذه مشكلة يعاني منها مثقفون ونخب، كما يعاني منها جماهير وبسطاء. وكثيراً ما نرى استسهالاً في عقد مقارناتٍ بين "الشعوب المتخلفة"، التي هي نحن، و"الشعوب المتحضّرة"، والتي هي تلقائياً، ضمن هذا النسق السطحي، غربية. مثل هذا المنحى الفكري والسلوكي غير سليم، وهو لا يبني بل يهدم، والأخطر أنه من حيث أردنا أم لم نرد يسهم في ترسيخ دونية الذات أمام الآخر، وهو الشعور الذي يفيد أنظمة الاستبداد وكذلك القوى الأجنبية المعادية لنا ولطموحاتنا. يقوم هذا النهج، باختصار، من ناحية، على تقويض إنسانية العربيِّ ونفيها عنه، وتقديمه همجياً لا يستحقّ المعاملة بالحسنى، كتلك الصورة النمطية التي ترسمها هوليوود لنا. ومن ناحية أخرى، على أن الحقوق الإنسانية الأساسية، كالحرية والكرامة والمساواة، قيم لا تصلح للعربي، وهو زعم أنظمتنا الاستبدادية ليبرروا قمعهم وفسادهم.
هنا، ينبغي أن نفرّق بين مفهومي جلد الذات وسحقها من جهة ومصارحتها والوقوف أمام عيوبها ومشكلاتها من جهة أخرى. الأولى حالة من نزع الإنسانية عنها وتأبيد أعطابها واستعبادها، والثانية محاولة لتحديد جوانب النقص فيها، وإصلاح مكامن الخلل، وإطلاق آفاقها نحو الحرية والكرامة والإبداع. هذا لا يعني السقوط في الوهم، ولا خداع الذات، بل نحن أمام اعتراف بالحقائق ونقاط الضعف، مهما كان ذلك مرّاً، ثمَّ العمل على ترميم ما يمكن ترميمه وإعادة بناء ما انهدم. والإنسان مُكَرَّمٌ كجنس من حيث خلقه، وبالإمكانات التي حباه الخالق بها، وكونه مخلوقاً عاقلاً وصاحب إرادة وخيار، لا فرق هنا بين عرق وآخر، ولا بين لون ولون، ولا بين أبناء ثقافات ومناطق مختلفة. وأي قول غير ذلك يكون تواطؤاً مع نظريات التفوّق العنصري البغيضة التي وظفها بعض البشر، وعلى الأخص الأوروبيون البيض، ضد الأفارقة السود وغيرهم من الشعوب التي نكبت بهم. ومن استغرق في جلد ذاته وتحقير أصله وترخيص معدنه وسحق إنسانيته فإنما يكون يمارس جريمة في حق نفسه وشعبه والأمة التي ينتمي إليها، ذلك أنه يُسدي للعنصريين المؤمنين بتفوقهم العرقي ذخيرة وذريعة للمضي في جرائمهم. دع عنك طبعاً الأنظمة القمعية التي يجادل كثير منها أننا كشعوب لا نصلح أن نساس بكرامة، ولا أن نتمتع بحرية ولا أن نعطى حقوقنا كاملة. كم من زعيم عربي قالها في الغرب، وبكل وقاحة، عندما ووجه بسؤالٍ عن كونه دكتاتوراً، مع أن تعليمه غربي ويتصرّف كـ"متحضر" عندما يحلّ في بلادهم، شعوبنا تختلف عنكم؟ أبعد نزع الإنسانية هذه بقيَ شيء، ثمَّ يأتي بعضنا ويعينهم في غيهم وإسفافهم!
طوّرت الدول الغربية، بالمجمل، نظماً يسود فيها القانون، وهذا يؤدّي إلى تراجع الفوضى، وانتظام الحياة إلى حد كبير
ثمّة مسألتان في هذا السياق، لا بد من الإشارة إليهما وتوضيحهما. الأولى، أن بعضنا يخلط بين "التحضر" على أساس العرق وبين "التحضر"، ونستخدم المصطلح هنا جدلاً، كنتيجة لوجود مجتمعات تعيش في كنف دول تفرض قوانين وقواعد صارمة لتنظيم الحياة. طوّرت الدول الغربية، بالمجمل، نظماً يسود فيها القانون، وهذا يؤدّي إلى تراجع الفوضى، وانتظام الحياة إلى حد كبير، بل وكذلك نشوء منظومات قيمية تلقائية، كاحترام قوانين السير والوقوف بالدور، إلى غير ذلك. كيف لنا أن نقارن هذا بدول تحكمها أنظمة هي ذاتها متخلفة، أو أنها ترى في الفوضى أداة لفرض سيطرتها على الناس عبر إشغالهم ببعضهم وجعل المواطن المسحوق في منافسة مع مواطن مسحوق مثله على الحقوق؟ مرة أخرى، الكارثة أن ترى بعض نخبنا وكذلك بعض الناس العاديين يجادلون أن ثمَّة عطباً جينياً عندنا كعرب، بدل أن يحددوا أصل المشكلة ويعملوا على إصلاحها.
المسألة الثانية، أن في زعم "تحضّر" الإنسان الغربي على الإطلاق فيه إسفاف ومبالغة. هذا لا يعني السقوط في إسفاف مقابل، عبر الزعم أنه همجيٌ من حيث الخلقة والفطرة. كما أي مجتمع، في الغرب متحضرون وعلى مستوى راقٍ من الإنسانية، وهناك من هم همجيون، قد ينجح القانون في ردعهم، وقد يفشل، أو قد تراهم هملاً يهيمون كالوحوش الضارية عند غياب القانون. هذا ما رأيناه غير مرة في الكوارث الطبيعية، كما جرى في أعقاب إعصار كاترينا في ولاية لويزيانا الأميركية، عام 2005، أو في حالات المظاهرات العارمة، كما خلال الاحتجاجات ضد العنصرية في الولايات المتحدة عام 2020. وهو ذات الأمر الذي شهدناه راهناً حول انتشار نظريات المؤامرة بين كثير من الغربيين، كما في الموقف من جائحة كوفيد – 19، مثلاً، وهي نظريات لا تختلف عن التي سادت في المجتمعات التي يصفها بعضهم بـ"المتخلفة".
في الغرب متحضرون وعلى مستوى راقٍ من الإنسانية، وهناك من هم همجيون
الأهم من ذلك، أن ليس كل دول الغرب متحضرّة، بل أغلبها غير ذلك. ولو حاولنا أن نسرد أمثلة على جرائم الدول الغربية بحق الشعوب الأخرى، سواء إبادة أو استعباداً أو احتلالاً أو نهباً لثرواتها، لما كفت آلاف الكلمات. ترى النفاق الغربي في أبشع صوره وهو يتباكى على إنسانية مشوهة إن فجّر عربي نفسه في أعداءه قهراً، أما سحق عشرات آلاف الأبرياء بالصواريخ الموجهة والطائرات الحربية والدبابات والأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، فهي طريقة متحضرة في القتل!
باختصار، كلنا سواسية في الإنسانية، لا فرق بين عرقٍ وآخر، والتحضّر يكون نتاج وعي وتربية وتأهيل مسنوداً بقوانين رادعة وقواعد وإجراءات صارمة ينتظم عبرها المجتمع والحياة. هذا ما نحتاج أن نفهمه، لا أن نساهم في تأبيد أزمتنا، نحن العرب، وتقويض إنسانيتنا بأيدينا. ويكفي هنا أن نُذّكِّرَ كيف سقط بعض نخب الغرب، كما في السويد وفرنسا، من الذين يزعمون أنهم أنصار الحرية ضد "الهمجية الإسلامية"، بالشماتة بضحايا الزلزال الكارثي في تركيا وسورية. أفي هذا أي نوع من التحضّر؟