من يوميات ثورة يناير
جدّت، الأسبوع الحالي، صفحةٌ في "فيسبوك"، سمّاها من بادروا إليها "احكي عن يناير". عرّفوها "منصةً مفتوحةً لكل المصريين يقدّموا من خلالها سردية وطنية جامعة، يتشاركوا معا ذكرياتهم في الميدان، ..". وتتوجه الدعوة فيها إلى المشاركة في هذه السردية، عن "18 يوم قضيناهم مع بعض .. من 10 سنين"، عن "18 يوم كتبوا حكاية وطن". وللحق، هناك أكثر من ضرورةٍ لأن تُصان المروياتُ والمشاهداتُ والصورُ والمحكياتُ والتدويناتُ عن تلك الأيام وبعض ما تلاها، من التلوين والتعمية والإغفال والترك والنسيان والتناسي. المهم أن تكون تلك التعبيرات حيّةً، كما انكتبت أو حُكيت أو سُمعت في لحظتها. وعلى كثرة ما ذاعت عن مشاركين في أيام الثورة في ميدان التحرير (وفي غيره) شهاداتٌ ومشاهداتٌ، وحكاياتٌ وقصص، إبّان الحدث نفسه وفي غضون وقائعه، وعشيَّته وغداتَه، سيما في وسائل التواصل، إلا أن قليلا من هذا كله ما التمّ واجتمعَ وتفهرسَ بين دفتي كتاب، أو في مرجعٍ مصنّفٍ مدقّقٍ ميسور المطالعة والتصفّح والقراءة. من هذا القليل كتاب الشاعرة المصرية نجاة علي، "الطريق إلى التحرير" (دار المتوسط، ميلانو، دار السويدي للنشر والتوزيع، أبوظبي، 2019).
لا تُفصح الكاتبة، في المقدّمة، ما إذا كانت اليوميات انكتبت في حينها، وتُنشر كما هي، أو أن "تدخلا" أو "تحريرا" قد جرى في مواضع فيها. والبادي أن شيئا من هذا، طفيفا أو كثيرا، قد جرى. .. هل انكتبت تذكّرا، واعتمدت على ملاحظاتٍ أو تدويناتٍ وقتية؟ ولا تبيّن الكاتبة سبب المسافات الزمنية بين هذه اليوميات (القليلة على أي حال) بينها، أياما أو أسابيع أو أشهر .. هل ما يجتمع بين أيدينا هو كل ما دوّنته في وقته، أم أنها انتقت ما انتقته للنشر في الكتاب (128 صفحة)؟ وعندما تفيد بأن هذه اليوميات توقفت عند وصول الرئيس الإخواني (هذه صفته هنا)، محمد مرسي، إلى كرسي الحكم، فإنها تخبر إنها "آثرت التوقف في كتابة هذه اليوميات عند مرحلة صعود الإخوان للحكم، لأنها مثّلت منعطفا خطيرا في تاريخ مصر، حيث كنّا على شفا أن تتحوّل مصر إلى دولة دينية". .. وغريبٌ أن يُقرأ، في المقدمة نفسها، إنها تتمنّى بالفعل أن تتمكّن، فيما بعد، من استكمال كتابة هذه اليوميات، وإضافتها في طبعة جديدة، تتناول الفترة التي تولّى فيها مرسي رئاسة مصر، مرورا بموجة "30 يونيو" وما بعدها. وجه الغرابة أن أي "يومياتٍ" لا تنكتب استرجاعا، وإنما هي المذكّرات كذلك. ولهذا، فإن شيئا من التحسّب (المنهجي) يفرض حالَه في استقبال ما تقوله الكاتبة عن يومياتها. سيما وأنها لا تذكر تأريخا لهذه المقدّمة المربكة، وإذا ما توقع القارئ أنها انكتبت في عام نشر الكتاب (2019)، فبذلك يجوز السؤال عن أسباب إخفاء الكاتبة موقفها مما جرى بعد "30 يونيو"، من قبيل ما إذا كانت الدولة التي صارت في مصر مدنيةً حقا، طالما أنها (نجاة علي)، ولها كل الحق في أن ترى ما ترى، ساقت موقفها من سنة حكم الإخوان المسلمين. ولا غضاضة في أن يُهمس في أذن الشاعرة إن الثقافة المدنية توجِب على من يعتنقها، عندما يكتُب في هذا الأمر، أن لا يضنّ على الذين وصلوا إلى الحكم في الحالة المتحدّث عنها بالإشارة إلى أنه صار لهم هذا بالانتخاب، وإنْ هو "كارثةٌ"، على ما ترى.
لا تبخس هذه الملاحظة (غير التفصيلية) من قيمة ما سردته نجاة علي في كتابها الرائق، سيما وأنها عبّرت في يومياتها عما يمكن حسبانه خيبة أملٍ مكتومةٍ مما أعقب تلك الأيام الـ18. وأنها حكت بعفويةٍ طلْقةٍ عن تجربة المشاركة في تظاهرات يومي 25 يناير وجمعة الغضب (28 يناير)، وفي التالي ليوم موقعة الجمل وأيام اعتصاماتٍ تتابعت في ميدان التحرير. حكت عن غبطتها، وخوفها، وآمالها، ومشاهداتها، وعن الناس كل الناس في المظاهرات، وعما شاهدت وسمعت. روت عما كانت تسمع وتشاهد على "الجزيرة". كتبت إن ثورة يناير قد تكون أعظم حدثٍ عاشته. وإن حماية مصريين مسيحيين إخوانهم المصريين المسلمين وهم يؤدّون صلاة العصر، بإحطاتهم بطوْق، لمنع قوات الأمن من إيذائهم، في يوم جمعة الغضب، كان أروع مشهدٍ شاهدتْه في حياتها. كتبت نجاة عن أمها التي تعاطفت مع حسني مبارك، ثم لمّا أصيب نجلُها في موقعة الجمل باتت تلعنه. كتبت إنها صارت تشعر إن مجرّد الوقوف بميدان التحرير بين المتظاهرين يمنح قوةً خفيةً هائلةً للصمود. كتبت إن اللواء إسماعيل عثمان لمّا قرأ البيان الأول للجيش بعد تنحّي مبارك ذكّرتها ملامحُه ونظراته الهادئة بشابٍ كانت سترتبط به بعد تخرّجها من الجامعة، وكان ضابطا بالجيش، ويمتلك كاريزما، والآن لا تعرف أين ذهب ذلك الوسيم بعد هذه السنوات كلها. كتبت عن كثير شائق، وباهر، ومحبط، ومقلق.