مواسم الربيع العربي من منظور تاريخي
من الجزائر إلى العراق، تنتفض الشعوب العربية مجدداً. ما هي العقبات التي تعترض سبيل تطلعاتها؟ وهل يلقي التاريخ ضوءًا على مآلها؟ نشهد حالياً الموجة الثانية من الاحتجاجات والانتفاضات في العالم العربي، تلك الانتفاضات التي بدأت في تونس في ديسمبر/ كانون الأول 2010. وكانت الموجة الأولى قد أطاحت النظم الدكتاتورية في تونس ومصر وليبيا واليمن وقوضت نظامي البحرين وسورية، ناهيك عن احتجاجات عديدة عمّت المغرب والجزائر والعراق والسودان.
بعد ذلك، راحت الثورة المضادة تنشر قواتها، بدءاً بالانقلاب العسكري في مصر في الثالث من يوليو/ تموز 2013، والذي مولته السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتأكدت قدرة المنظومة القديمة على التأقلم والمقاومة، عبر جمعها بين القمع وإغداق السيولة المالية (الآتية من بلدان الخليج أو عائدات النفط) والتنازلات الشكلية إلى هذا الحد أو ذاك، في الوقت الذي كان شبح الحروب الأهلية يفعل فعله في نفوس المحتجين فيردعها عن القيام بما لا تحمد عقباه.
ومع ذلك، فالأوهام التي كانت تساور البعض، ولا سيما في الغرب، بعودة "الاستقرار" تبددت بعد حين. فلقد اشتعلت نيران الثورة مجدداً عام 2019: الانتفاضة الشعبية في السودان، قلبت نظامًا دام ثلاثين سنة، تحت رئاسة الجنرال عمر البشير. وهبت موجة عارمة من الاحتجاجات في الجزائر فاعترضت سبيل الولاية الخامسة المبرمجة للرئيس المتهالك، وما زالت حتى الآن تطالب بوضع حد نهائي للنظام الذي استغل البلاد شر استغلال. وانتفض الشعب العراقي ضد نظام من صنع الولايات المتحدة عام 2003، يرتكز إلى الطائفية والفساد. وأخيراً خرج اللبنانيون إلى الشارع بالدوافع نفسها مطالبين بأن يرحل كل أقطاب الطبقة السياسية "كلن يعني كلن". حتى المصريون، وعلى الرغم من آلية القمع التي تحاصرهم وتضيّق على أنفاسهم، والتي لم تشهدها البلاد من قبل، تظاهروا في سبتمبر/ أيلول، ولو بأعداد محدودة، من القاهرة إلى السويس، ومن الإسكندرية إلى المحلة الكبرى.
كانت دوافع هذه الموجة الثانية هي نفسها: حكومات متسلطة، متربعة على رؤوس مواطنيها، يمكن لأي مواطنٍ فيها أن يخضع في أي لحظة للتوقيف، وليس بالضرورة لأسباب سياسية، وأن
يُرمى به في السجن، وتُساء معاملته، ويخضع للتعذيب. أوضاع اجتماعية لا تُطاق، تتمثل ببطالة جماهيرية تطاول أول ما تطاول الشباب، وفوارق اجتماعية تتفاقم يوماً بعد يوم، جاعلةً من الشرق الأوسط المنطقة الأكثر تفاوتاً في العالم بأسره. وبات الظلم الاجتماعي في قلب الانتفاضات هذه أكثر مما كان عام 2011. ولئن كان هذا "الحراك"، كما بات يسمّى في كل مكان، قد استخلص بعض العبر من الماضي، فرفض العَسْكرة، بالرغم من القمع العنيف الذي مورس بحقه في العراق أو في السودان، ونأى بنفسه عن محاولات شق صفوفه على أساس طائفي وأدرك تماماً أن المواجهة ليست بين "العلمانيين" المزعومين و"الملتحين" المزعومين، إلا أنه يصطدم اليوم بعقبة كبرى، بحاجز جسيم كان قد حاول الالتفاف عليه في 2011-2012، ألا وهو ابتكار نظام اقتصادي اجتماعي جديد.
وكي نفهم صعوبة المهام المطروحة اليوم، لا بد لنا من العودة إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت تلك مرحلة إزالة الاستعمار، والنضالات الهادفة لتحقيق السيادة السياسية الفعلية (المصحوبة بإخلاء القواعد العسكرية، وجلاء النفوذ الغربي) والطموح باستعادة الثروات الوطنية وتشييد اقتصاد وطني مرتكز إلى قطاع عام قوي وإلى الإصلاح الزراعي. وبالفعل تحقق هذا المشروع، من مصر إلى العراق، ومن الجزائر إلى سورية. وتجسّد بتحسين ظروف العيش لأكثر الفئات فقراً وبتعميم التعليم والطبابة. وقد واكبت هذه الخيارات سياسة خارجية تتسم بالاستقلالية وتطمح لعدم الانحياز. وبالرغم من الثمن الباهظ لهذه الإنجازات والمتمثل بجهاز أمني متربص في كل مكان، وتضييق كبير على الحريات، إلا أن هذا البرنامج قد طبع قوى سياسية عديدة في الستينات والسبعينات، سواءً أكانت في السلطة أم في المعارضة، إلا أن الهزيمة العربية عام 1967 في المواجهة مع إسرائيل ووفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وهواري بومدين عام 1978، وكذلك الأزمة المتفاقمة للمنظومة الاشتراكية المتمثلة بالاتحاد السوفياتي، شكلذ ذلك كله منعطفاً تاريخياً غيّر أمورا كثيرة.
كما منحت الأزمة النفطية عام 1973 النظم الملكية في الخليج وزناً متزايداً. على الصعيد الدولي، كان تأثير العولمة وانتصار الليبرالية الاقتصادية الجديدة (النيوليبرالية) قد فرضا "إجماع واشنطن" وخطط صندوق النقد الدولي كطريق وحيد للتنمية.
"ما من بديل آخر!" هذا ما كانت تعلنه مارغريت تاتشر على الملأ. وباتت الخطط المعدّة في مطبخ صندوق النقد الدولي، والتي يصدق عليها كل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، تفرض فرضاً من دون أي شفقة. كان وقتها الرئيس أنور السادات قد انتهج سياسة الانفتاح واضعاً بلاده على الطريق الذي أصبح بعد ذلك مثالاً يحتذى. فدخل عندها القطاع العام في سبات عميق وفي بعض الأحيان تم بيعه بأبخس الأثمان. وباتت النخب توجّه أنظارها باتجاه واشنطن، فتخلّت عن المطالب القومية "البالية"، كدعمها للقضية الفلسطينية. ولم تصبح الحريات العامة أفضل حالاً من قبل، لأن الشرطة السياسية ظلت تتحكم بكل الأنشطة السياسية.
وقد كان لهذا النموذج النيوليبرالي المرتكز إلى التجارة الحرة أثر فادح على الشعوب. فلم يضطلع القطاع الخاص بمهام القطاع العام، بل استثمر كل ما نهبه في الملاذات الضريبية. لم يجد
ملايين من الشباب ذوي المؤهلات المهنية فرص عمل لائقة في بلادهم، فهاجر كثيرون منهم، مجازفين بحياتهم أحياناً. وأكدت صدمة أسهم البورصة عام 2008 وجود أزمة، لا تقتصر على العالم العربي، كما تبيّن من الأوضاع في اليونان أو تشيلي. وبات التغير المناخي يهدّد بعض المناطق في العالم العربي التي قد تتحول إلى بقع غير قابلة للعيش إطلاقاً. وعندما هبّت الموجة الثانية من الثورات العربية، كانت أنظمة الحكم قد ازدادت وهناً. وكان انهيار أسعار النفط عام 2014 قد سحب منها شبكة الأمان. وبات التشكيك يطاول الطبقة السياسية بأسرها، حيث كل قطب فيها متواطئ مع الآخرين (من هنا جاء شعار "كلن يعني كلن") وهو تواطؤ كان واضحاً في لبنان والعراق بين كل الأحزاب التي اغتنت بغض النظر عن الاختلافات السطحية فيما بينها.
وثمّة طبائع سياسية ديمقراطية جديدة في طور الولادة اليوم إلا أنها تفترض برامج اقتصادية لا يمكن أن تُختَزل "بتسديد الديون" و"فتح الأسواق". ولكن لم يعد هناك أي نموذج اقتصادي يمكن اتباعه بديلا، إلا رأسمالية الدولة على الطريقة الصينية التي تتضمن الانحرافات اللاإنسانية، كتأجير القوى العاملة واستغلال اليد العاملة المحلية استغلالاً بشعاً، ومن الصعب تطبيق مثل هذا النظام اليوم، لأنه لم يعد يناسب العصر، فالأسواق تغلق شيئاً فشيئاً، والهجرة تزداد خطراً. ما العمل في هذه الحال؟ خلافاً لما يعتقد مسؤولون غربيون عديدون، ما من عودة ممكنة للاستقرار من دون تغييرات سياسية عميقة، فالإبقاء على النخب الحالية في الحكم يعني انتشار الفوضى العارمة، تلك الفوضى التي تستفيد منها أكثر التنظيمات تطرّفاً، سواءً أكانت القاعدة أم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أم أي حركة أخرى لم تظهر بعد إلى الوجود. أما الطريق الآخر، وهو أكثر وعورة وازدحاماً بالعقبات، فهو طريق يستند إلى ثقافة تعددية جديدة تبصر النور حالياً وإلى تنمية اقتصادية وطنية، تلبي احتياجات الشعب، مما يفترض إجراء قطيعة مع المنطق النيوليبرالي والتجارة الحرة التي لا تعرف أي قيد أو شرط.
والسؤال المطروح علينا اليوم، على فرنسا والاتحاد الأوروبي على حد سواء، هو ما إذا كانا سيواكبان هذه الخيارات البديلة، أم أنهما سيتشبثان بنظريات بالية، لا بد أن تزيد من انتشار الفوضى، واللذان سيدفعان بدورهما ثمنها في نهاية المطاف.
(ينشر هذا المقال بالتزامن مع أوريان 21)
ومع ذلك، فالأوهام التي كانت تساور البعض، ولا سيما في الغرب، بعودة "الاستقرار" تبددت بعد حين. فلقد اشتعلت نيران الثورة مجدداً عام 2019: الانتفاضة الشعبية في السودان، قلبت نظامًا دام ثلاثين سنة، تحت رئاسة الجنرال عمر البشير. وهبت موجة عارمة من الاحتجاجات في الجزائر فاعترضت سبيل الولاية الخامسة المبرمجة للرئيس المتهالك، وما زالت حتى الآن تطالب بوضع حد نهائي للنظام الذي استغل البلاد شر استغلال. وانتفض الشعب العراقي ضد نظام من صنع الولايات المتحدة عام 2003، يرتكز إلى الطائفية والفساد. وأخيراً خرج اللبنانيون إلى الشارع بالدوافع نفسها مطالبين بأن يرحل كل أقطاب الطبقة السياسية "كلن يعني كلن". حتى المصريون، وعلى الرغم من آلية القمع التي تحاصرهم وتضيّق على أنفاسهم، والتي لم تشهدها البلاد من قبل، تظاهروا في سبتمبر/ أيلول، ولو بأعداد محدودة، من القاهرة إلى السويس، ومن الإسكندرية إلى المحلة الكبرى.
كانت دوافع هذه الموجة الثانية هي نفسها: حكومات متسلطة، متربعة على رؤوس مواطنيها، يمكن لأي مواطنٍ فيها أن يخضع في أي لحظة للتوقيف، وليس بالضرورة لأسباب سياسية، وأن
وكي نفهم صعوبة المهام المطروحة اليوم، لا بد لنا من العودة إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت تلك مرحلة إزالة الاستعمار، والنضالات الهادفة لتحقيق السيادة السياسية الفعلية (المصحوبة بإخلاء القواعد العسكرية، وجلاء النفوذ الغربي) والطموح باستعادة الثروات الوطنية وتشييد اقتصاد وطني مرتكز إلى قطاع عام قوي وإلى الإصلاح الزراعي. وبالفعل تحقق هذا المشروع، من مصر إلى العراق، ومن الجزائر إلى سورية. وتجسّد بتحسين ظروف العيش لأكثر الفئات فقراً وبتعميم التعليم والطبابة. وقد واكبت هذه الخيارات سياسة خارجية تتسم بالاستقلالية وتطمح لعدم الانحياز. وبالرغم من الثمن الباهظ لهذه الإنجازات والمتمثل بجهاز أمني متربص في كل مكان، وتضييق كبير على الحريات، إلا أن هذا البرنامج قد طبع قوى سياسية عديدة في الستينات والسبعينات، سواءً أكانت في السلطة أم في المعارضة، إلا أن الهزيمة العربية عام 1967 في المواجهة مع إسرائيل ووفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وهواري بومدين عام 1978، وكذلك الأزمة المتفاقمة للمنظومة الاشتراكية المتمثلة بالاتحاد السوفياتي، شكلذ ذلك كله منعطفاً تاريخياً غيّر أمورا كثيرة.
كما منحت الأزمة النفطية عام 1973 النظم الملكية في الخليج وزناً متزايداً. على الصعيد الدولي، كان تأثير العولمة وانتصار الليبرالية الاقتصادية الجديدة (النيوليبرالية) قد فرضا "إجماع واشنطن" وخطط صندوق النقد الدولي كطريق وحيد للتنمية.
"ما من بديل آخر!" هذا ما كانت تعلنه مارغريت تاتشر على الملأ. وباتت الخطط المعدّة في مطبخ صندوق النقد الدولي، والتي يصدق عليها كل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، تفرض فرضاً من دون أي شفقة. كان وقتها الرئيس أنور السادات قد انتهج سياسة الانفتاح واضعاً بلاده على الطريق الذي أصبح بعد ذلك مثالاً يحتذى. فدخل عندها القطاع العام في سبات عميق وفي بعض الأحيان تم بيعه بأبخس الأثمان. وباتت النخب توجّه أنظارها باتجاه واشنطن، فتخلّت عن المطالب القومية "البالية"، كدعمها للقضية الفلسطينية. ولم تصبح الحريات العامة أفضل حالاً من قبل، لأن الشرطة السياسية ظلت تتحكم بكل الأنشطة السياسية.
وقد كان لهذا النموذج النيوليبرالي المرتكز إلى التجارة الحرة أثر فادح على الشعوب. فلم يضطلع القطاع الخاص بمهام القطاع العام، بل استثمر كل ما نهبه في الملاذات الضريبية. لم يجد
وثمّة طبائع سياسية ديمقراطية جديدة في طور الولادة اليوم إلا أنها تفترض برامج اقتصادية لا يمكن أن تُختَزل "بتسديد الديون" و"فتح الأسواق". ولكن لم يعد هناك أي نموذج اقتصادي يمكن اتباعه بديلا، إلا رأسمالية الدولة على الطريقة الصينية التي تتضمن الانحرافات اللاإنسانية، كتأجير القوى العاملة واستغلال اليد العاملة المحلية استغلالاً بشعاً، ومن الصعب تطبيق مثل هذا النظام اليوم، لأنه لم يعد يناسب العصر، فالأسواق تغلق شيئاً فشيئاً، والهجرة تزداد خطراً. ما العمل في هذه الحال؟ خلافاً لما يعتقد مسؤولون غربيون عديدون، ما من عودة ممكنة للاستقرار من دون تغييرات سياسية عميقة، فالإبقاء على النخب الحالية في الحكم يعني انتشار الفوضى العارمة، تلك الفوضى التي تستفيد منها أكثر التنظيمات تطرّفاً، سواءً أكانت القاعدة أم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أم أي حركة أخرى لم تظهر بعد إلى الوجود. أما الطريق الآخر، وهو أكثر وعورة وازدحاماً بالعقبات، فهو طريق يستند إلى ثقافة تعددية جديدة تبصر النور حالياً وإلى تنمية اقتصادية وطنية، تلبي احتياجات الشعب، مما يفترض إجراء قطيعة مع المنطق النيوليبرالي والتجارة الحرة التي لا تعرف أي قيد أو شرط.
والسؤال المطروح علينا اليوم، على فرنسا والاتحاد الأوروبي على حد سواء، هو ما إذا كانا سيواكبان هذه الخيارات البديلة، أم أنهما سيتشبثان بنظريات بالية، لا بد أن تزيد من انتشار الفوضى، واللذان سيدفعان بدورهما ثمنها في نهاية المطاف.
(ينشر هذا المقال بالتزامن مع أوريان 21)
دلالات