مونديال قطر وحوار الحضارات
يحدُث أن بعض الصور، التي تطغى في الملتقيات الدولية ذات الطبيعة الثقافية، تكتسب بلاغتها، في ملتقيات أخرى.. تُجاورها أو تتصادى معها، وإِنْ كانت من طبيعة أخرى، تنافسية رياضية. حدث ذلك بين منتدى تحالف الحضارات في فاس المغربية ومونديال قطر الكروي، إذ كان التزامن امتحانا مزدوجا لفكرة البشرية ككيان واحد وجنس واحد ومصير واحد، مع الاحتفاظ لكل شعب أو أمة بطريقته في "اللعب الحضاري" أو في "اللعب الكروي".
ولعل من بين الخطابات التي تموقعت في ملتقى تقاطع طريقي المونديال ومنتدى تحالف الحضارات، كلمة دولة قطر التي ألقاها وزير خارجيتها صبيحة يوم 22 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) أمام ممثلي قرابة 58 دولة وهيئة عالمية وإقليمية. ورد في كلمته ما معناه "إنني جئتكم حاملا شعلة الأمل من الدوحة، حيث يوجد ملايين من البشر في المونديال، لترسيخ وحدة إنسانية من خلال كرة القدم"، وقد كان رئيس ديبلوماسية قطر يتحدّث عن الحب الكروي من مقومات إنسانية واحدة تعيش فوق الكوكب نفسه بلا أحقاد وبلا نزاعات ولا حروب حضارية.
وحدث أنه على أرض عربية، طرفها الأول في الشرق والطرف الثاني في الغرب، تحاورت البشرية من خلال الجسدين، الكروي والحضاري، في الوقت نفسه. كانت فاس ترشّ عبقها التاريخي العتيق، الذي تعايشت فيه الديانات التوحيدية كلها، وبين جنبات جامعتها درس الرهبان والأحبار والقساوسة، بل كان أحد البابوات طالبا في جامعة القرويين، كما ورد في رسالة محمد السادس إلى هذا الملتقى. كان المغرب، بتجربته المتميزة، في تعايش ديني ما زالت آثاره قائمة ومهيكلة ومقننة في النصوص والهندسات. ومثّل المعيش اليومي جانبا من هذا المشترك الإنساني عبر التاريخ، كما مثَّل مونديال قطر الرمزيات التي تقتسمها حضارة العرب المسلمين مع العوالم الغربية والآسيوية واللاتينية وغيرها، وجاء بإضافة أخرى إلى الحوار المتوخّى بين الحضارات في زمنٍ انبنى في عمقه على صراعاتٍ بالكاد تخفي ذاتها، ومن داخل البؤرة الأكثر التهابا وأملا في الكرة الأرضية: الشرق الأوسط.
صاحب مونديال قطر نقاش حول الرسالة الحضارية للرياضة من على أرض عربية تحمل هويتها وتراثها وملامحها الحضارية الخاصة
وقد صاحب مونديال قطر نقاش حول الرسالة الحضارية للرياضة من على أرض عربية تحمل هويتها وتراثها وملامحها الحضارية الخاصة، بدا في عمقه أنه نقاش ثقافي حضاري بوسائل أخرى. كما كان واضحا أن خلفية طرح سؤال التحالف الحضاري بدل صراع الحضارات هو مناقشة بعدية لما تقدّم به الكاتب والسياسي الأميركي، صموئيل هنتنغتون، صاحب مفهوم "صراع الحضارات"، سواء النقاش الذي جرى في فاس، كمجهود فكري سياسي استراتيجي، يتوسّل الأدوات السياسية المؤسساتية في تغيير قواعد الاشتباك الموروثة عن زمان الصراعات، أو الذي ينعقد في قطر، حيث تمتحن البشرية كونيتها المشتركة من خلال ترويض كرة القدم لخدمة هدف أسمى من الكأس ـ الجسد. ومع ذلك، لم يكن هناك من بد لمناقشة الفكرة الحضارية الموحّدة على هامش اللقاءين معا.
لقد اتضح من خلال متابعة كاتب هذه السطور مناقشات منتدى تحالف الحضارات، الذي أسسته، في زمن الضربات الإرهابية العابرة للقارات في 2004، تركيا ــ أردوغان وإسبانيا ــ ثاباتيرو، أن صراع الحضارات طرح على طاولة النقاش التاريخي شرعية هذا الصراع نفسه. وفي هذا المضمار، اختلفت المقاربات في المنتدى، عندما تحدث كل من الأمين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريس، والمندوب السامي للأمم المتحدة لتحالف الحضارات أنخيل موراتينوس، وبعض ممثلي الدول، بخلاف ما تحدّث به متدخلون أفارقة وآسيويين، وبعض ممثلي المنظمات الثقافية والروحية في العالم الاسلامي.
لا بد لفكرة الصراع أن تختفي وتترك المكان للتعايش والتآلف، وأن الصراع غير موجود بين الحضارات
بالنسبة لغوتيريس وموراتينوس، لا بد لفكرة الصراع أن تختفي وتترك المكان للتعايش والتآلف. وقد ذهبا إلى التفكير معا في أن الصراع غير موجود بين الحضارات، كما قال هنتنغتون، وأن الفكرة غير سليمة بأخطاء منهجية وتاريخية، وأن الذي يحدث اليوم هو وجود عالم في أزمة، وأن الصراع، إن كان لا بد منه، يوجد بين الفقراء والأغنياء والجنوب والشمال، وليس بين الحضارات أو بعضا منها كما هو حال الغرب ومقابله الإسلام في المعادلة التناحرية التي أعقبت سقوط جدار برلين وتفكّك المعسكر الشرقي.
المنطق الثاني، والذي كان له حظه من المطارحة، ومثلته مداخلات آسيوية وعربية، عبر عنه الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، الذي شارك ضمن ما سماها المنظّمون فقرة "كلمة الحكماء"، وقد اعتبر أن هنتنغتون على حقّ في تثبيت وجود صراع الحضارات، لكنه كان على خطأ في استهداف الإسلام عدوا وحيدا. وفي النقاش، تميز الصوت الثالث من خلال أفريقيا وآسيا، وتجسّد من خلال مداخلات وزيرة الدولة رئيسة الوزراء السابقة في السنغال أميناتا توري، التي شدّدت على ضرورة التمييز وإعادة تعريف الحضارة كمصطلح، متفقة مع موراتينوس بشأن هذا الشرط المعرفي في الحوار بين كيانات يجب أن تُعرِّف نفسها بالتدقيق، ونبهت إلى وجود حضارات هيمنت منذ قرون أو تهيمن الآن باسم مهمة حضارية (جلب الحضارة إلى الشعوب المختلفة عنها)، وهو ما يطرح قضية تاريخ العبودية والاعتداء التاريخي على شعوب حضارات مغايرة، كما يجعل الحسم مع نزاعات الذاكرة مسألة راهنة.
هناك حاجة إلى حضارة واحدة بأذرع متعدّدة، وقيم كروية واحدة بأقدام متعدّدة، كما هو منطق الأشياء
وبالعودة إلى النقاش الذي صاحب المونديال، نجد أن هذه الفكرة هي نفسها التي صدح بها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، جياني إنفانتينو، في الرد على الهجوم على قطر وتنظيمها المونديال باسم التميز الحضاري وباسم الحقوق الإنسانية، وباسم غيرها من مظاهر الاختلاف. ويستفاد من ذلك أن الفكرة نفسها عن "التدخ في الشؤون الحضارية لدول ذات سيادة"، أخذت بالفعل مجراها في النقاشين معا، نقاش فاس ونقاش الدوحة. وعندما قال إنفانتينو: "لقد تعلمنا دروسا عديدة من الأوروبيين والعالم الغربي. أنا أوروبي. وبسبب ما كنا نفعله منذ ثلاثة آلاف عام حول العالم، يجب أن نعتذر لنحو ثلاثة آلاف سنة قادمة قبل إعطاء دروس أخلاقية"، فقد كان يفضح التناقض الذي يرعاه الغرب، كلما تعلق الأمر بمجتمعٍ مخالفٍ يريد النهوض، بل يصعب في هذا الموقف الفصل بين مونديال كروي ومونديال ثقافي روحي! وأين تقف كرة القدم لتبدأ الحضارة!
هنا ضرورة لإعادة النظر، بدون أن تفقد البشرية أفقها الكوني المشترك من القيم، وتحريره من حسابات الهيمنة والتركيع، وهو ما ذكرته أميناتا توري، عندما طالبت بضرورة "إفراغ تاريخ العلاقة بين الحضارات من كل مضامينه السلبية وتطهيره من تقيّحه". وكما ذهب ممثل الهند، الحاضر في منتدى الحضارات في فاس، إلى إعادة النظر في التعامل مع الحضارات من خلال الإقرار بِأُخرى، عمادها دياناتٌ غير الديانات التوحيدية، منها الحضارات الهندية والصينية والهندوـ أميركية… إلخ. وقد اتضح من خلال المداخلات أن البحث عن قاسم إنساني موحد يتطلب تجديد زوايا الحوار، وأيضا الاحترام المتبادل بين الحضارات في اختلافها.
في المونديال الكروي، كما في منتدى فاس لتحالف الحضارات، يتضح أن واقع المشترك الإنساني يتجاوز الدعوة الأيديولوجية المحكومة بموازين القوى. وإذا كان من الصعب الحديث عن بروز نظام عالمي جديد، سواء في الاستراتيجية أو في كرة القدم، يتميز باحترام التعدّديات، وببناء أقطاب متعدّدة متمايزة، ولها هدف مشترك، فإن هناك مع ذلك حاجة إلى حضارة واحدة بأذرع متعدّدة، وقيم كروية واحدة بأقدام متعدّدة، كما هو منطق الأشياء.