مونولوغ لا بد منه
في زمن التشابه والتكرار، حيث الكثير من حولك متوقع وباهت ومنزوع الدهشة، تحاولين جاهدة التمسّك بحقك في الاختلاف، في التحليق عاليا في معزلٍ عن السرب، في التفرّد بمواقفك وقناعاتك وحالاتك النفسية المتقلبة، وأسئلتك الوجودية المرهقة، من دون أن تتحولي إلى البطّة السوداء المنبوذة من الجميع، على الرغم من طاقة الحب التي تغمر روحك، تمنحينه بسخاء أرعن لغير مستحقيه. اعلمي أن أحدا لن يسمح لك بالتعبير عن حقيقتك المتمرّدة المرفوضة من المجموع المنضبط المتصالح مع شرط البقاء. سيرمونك بالعقوق والحماقة وغرابة الأطوار وحدّة الطباع. سيردّد على أسماعك من يكترث بأمرك حكما ومواعظ من نوع "الموت مع الجماعة رحمة" و"حطّ راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس"، إلا أن رأسك الصلب العنيد، المكتظ بالأسئلة والهواجس والكوابيس غير قابل لتسوياتٍ مهادنةٍ ذليلةٍ كهذه. تُصارعين بمفردك طواحين هواء متخيلة، مثل دونكيشوت حالم ولّى زمانه، وتخلى رفيق الدرب (سانشيو) الذي لا يقلّ حماقةً عن صحبته.
كم أنت وحيدة ومتعبة، أيتها المرأة المبتلاة بالحنين، المتشبثة بالأمل، الطامحة بزمن أقل سوادا وأكثر فروسية، الرافضة الإقرار بالهزيمة الكبرى من باب المكابرة والعناد ليس إلا. تحبين الحياة من طرف واحد، وتسعين، بكل ما أوتيت من طاقة، في مناكبها. تحاولين التماسك والثبات، في حين تعاجلك في كل مرّة بالخيبة والخذلان. لكنك لا تتّعظين من دروسها المؤلمة، تعاودين ارتكاب الأخطاء ذاتها بالوتيرة نفسها. يهتف صوت مكتوم من داخلك محتجّا: متى تتعلّمين، أيتها البلهاء التي تبالغ في حسن الظن بالحياة. كم من الضربات بعد يلزمك كي تفيقي من أوهامك حولها، كي تدركي مدى قسوتها وعدم اكتراثها. تمضي الأيام بك، تنطوي سنوات كثيرة من دون أن تغادري طفولتك التي باتت لعنة تلاحقك، لفرط تعلقك بها، مرحلة من البياض الخالص، حيث الأشياء محدّدة وواضحة لا لبس فيها، رافضة الاعتراف بأن التسمّر عندها يحول دون نضجك المفترض.
ها أنت تدلفين خريف العمر خالية الوفاض، مثقلة بالذكريات الحزينة والخيبات الكثيرة، مجرّدة من الحكمة، مسكونة بالقلق والرعب من الآتي، ونفسك اللّوامة لا تكفّ عن التقريع، تتجاهلين، عن عمد، نداء الاستغاثة التي تطلقها روحك المستوحشة، وتواصلين المحاولة على الرغم من كل شيء، تواجهين العالم بابتسامة كبيرة، وتحثّين اليائسين على التعلق بالأمل والفرح. تضللينهم بالأكاذيب الواهية حول سخاء الحياة وجدوى الترفع والتعالي على الأحزان. تصدّقين نفسك أحيانا، أو لعلك تتواطئين ضدّها متوهمة أنك عصية على الانكشاف. تدعين قوة لا تملكينها كي لا تخذلي من يظنون أنك سند وملاذ. أفيقي، أيتها المرأة الضالّة. انظري حولك جيدا، تأمّلي الأشياء بعين محايدة، غوصي عميقا في دواخل نفسك، اكتشفيها من جديد، اقبليها على علاتها، تصالحي مع تحوّلاتها. انظري إلى الماضي بشيءٍ من التسامح، تعلّمي الإصغاء أكثر، وكفّي عن الحيرة التي لا تفضي إلى شيء. اقبلي الآخرين كما هم، بحلوهم ومرّهم وتيقّني أن ليس بإمكانك إحداث تغيير يذكر في صفاتهم التي لا تروق لك. تلك ليست مسؤوليتك، خوضي الحياة بقلبٍ شجاع، ولا تُكثري من الأسئلة صعبة الإجابة. تخلّصي من اعتقادك الأبله أنك مركز الكون، وسلّمي بأنك مجرّد عابرة في فسحة زمنية عابرة، قد تترك أثرا ضئيلا فيه، وعلى الأرجح أنها لن تفعل.