نبيه برّي 1984
أحرز نبيه برّي (84 عاما)، الثلاثاء الماضي، ولاية سابعةً له رئيسا لمجلس النواب اللبناني، فاحتفظ بموقعه 30 عاما موصولة. قد يستثير هذا سؤالا عمّا إذا كان يعود إلى قوة التحالف بين حركة أمل التي يقودها برّي منذ 1980 وحزب الله، ويشكّلان به ما يسمّى "الثنائي الشيعي" الذي استطاع، منذ سنوات، أن يحوز الانفراد بترشيح رئيس مجلس النواب، وفي أن يكون هذا المرشّح نبيه برّي، من دون أن يقدر غيرُهما، غالبا، على طرح مرشّحٍ شيعيٍّ منافس. هذا صحيح، ولكن لا يجوز أن يغيب أن ملكاتٍ في الرجل مكّنته من أن يحتفظ بالمنصب الثاني في النظام السياسي اللبناني. فضلا عن أنه ليس مجرّد رئيس برلمان، يؤدّي متطلبات هذا الموقع، الإدارية والتسييرية والبروتوكولية، وإنما هو ركنٌ عتيدٌ في الطبقة السياسية الحاكمة النافذة في لبنان، وأحد رموزها المكينين في خريطة السلطة والفساد وشبكاتهما في البلاد، بل ولاعبٌ لم يكن ممكنا تجاوزه في كل المحكّات في لبنان. وقد دلّ، في غير شأن، على أن له من اسمِه نصيبا كثيرا، وأنه من أبرع السياسيين اللبنانيين دهاءً. وفي الوسع أن يقال عنه، وهو الذي يزاول السباحة في الصيف والشتاء، ويكتب الشعر أحيانا (غنّى له مارسيل خليفة)، إنه إذا كان من أهل الحروب الأهلية في لبنان، في أطوارٍ متأخرّة، مع فصائل فلسطينية، ومع تشكيلاتٍ مسيحيةٍ، وأيضا مع حزب الله (!)، فإنه، للحق، كان فاعلا في محطّاتٍ وتوتراتٍ سياسية (وغير سياسية)، غير قليلة، في ابتداع توافقاتٍ كان لها أثرُها الطيب، وإنْ مؤقتا أحيانا. وفي الأثناء، شاء أن يغلق البرلمان عندما أراد هذا غير مرّة. وأمكنه تمرير مشاريع قوانين أو تأجيلها أو تعطيلها، فرغبتُه في هذا أو ذاك مؤثّرة وجوهرية، غالبا.
يفيد كثيرا الذهاب إلى مؤتمري الحوار الوطني اللبناني، في جنيف (31 أكتوبر/ تشرين الأول – 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1983)، وفي لوزان (12 مارس/ آذار – 20 مارس 1984)، للتعرّف أكثر على نبيه برّي، الذي صار بعدهما وزيرا. شارك في المؤتمريْن رئيس الجمهورية حينها أمين الجميل، ورشيد كرامي وبيار الجميل وصائب سلام ووليد جنبلاط وكميل شمعون وعادل عسيران (وغيرهم)، ومراقب عن السعودية، بالإضافة إلى عبد الحليم خدّام. وشارك نبيه برّي (46 عاما آنذاك)، ليس بصفته رئيس حركة أمل، وإنما أيضا (أو فقط؟) ممثلا للطائفة الشيعية. نشر طلال سلمان "المحاضر السرّية الكاملة" للمؤتمريْن في كتابٍ أعطاه عنوانا فرعيا "ثرثرة فوق بحيرة ليمان" (المركز العربي للمعلومات، بيروت، من دون تاريخ). ومن بين كثيرٍ كتبه في مقدّمة الكتاب الذي له أهميته التوثيقية أن أولئك الزعماء اللبنانيين بالكاد بلعوا ظاهرةً اسمُها وليد جنبلاط، حتى جاءهم "ذلك اللغز المغلق" المسمّى نبيه برّي، "من أين انشقّت الأرض عن هذا القادم من تبنين بغير تاريخ خاص، ميّزه عن ألوف ومئات ألوف الوافدين مثله من الملحقات والأرياف الفقيرة". يحكي سلمان عن حيرتهم في معرفة "الثمن" الذي يستطيعون توفيره، ويتطلّبه شراء رضا نبيه برّي وصمته، في حين يصفه آخرون إنه لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب. ويخبرنا، نقلا عن "بعضهم"، أنهم عرضوا على نبيه برّي قيادة الجيش اللبناني (هذه مفاجئة حقا!)، "فلمعت السخرية في عينيه، واكتفى بأن سألنا: ومن يعيّن هذا الماريشال؟، فلمّا قلنا إنه رئيس الجمهورية بطبيعة الحال، قال بهدوء: من له حقّ التعيين له حقّ العزل.. ثم حوّل الحديث إلى حكايات ونوادر". ويستطرد طلال سلمان عن "بعضهم": "عندما عرضنا عليه مقعديْن، بل ثلاثة، في الوزارة المقبلة، وكلها سيادية، لم يكلّف خاطرَه عناء المناقشة، ثم قال: حديث الحكومة لم يأت بعد، خلّونا في الموضوع، هل أنتم مع إلغاء الطائفية السياسية أم ضدّها؟".
عندما تقرأ "المحاضر"، ولو بتعجّل، يفاجئك أمين الجميّل بعض الشيء بسجاليّته، أما نبيه برّي فيفاجئك بما هو أكثر، بقدرته الفائقة على المجادلات الطويلة، والأخذ والردّ المطبوعيْن بالتحبّب، وعلى تغليف كل ما يقول في رداء مناهضة الطائفية السياسية. يُطمئن، مثلا، بيار الجميّل الذي يطلب ضماناتٍ للمسيحيين في لبنان، من أجل ألا يذهب نصفُهم إلى حل إسرائيلي. يخوضُ في مقتضياتٍ دستوريةٍ وقانونية (بتفاصيل التفاصيل) مع أمين الجميّل. يلحّ على مقام الجيش ووحدته. لا يتساهل (في جنيف) في إلغاء اتفاق أيار مع إسرائيل (وليس تجميده كما كان مطروحا). يقول إن مشروع الفيدرالية في لبنان يُضعف قوة رئيس الجمهورية المسيحي.. إلى غير هذا من كثيرٍ كثيرٍ يؤكّد المؤكّد، أن حنكة نبيه برّي، وملكاتٍ فيه بلا عدد، أقلّه منذ 1984، هي ما صيّرته ليس فقط صاحب أطول ولاية رئاسة مجلس تشريعي عربي (وفي العالم؟)، بل أيضا صاحب دورٍ باهظ النفوذ، ومُصانٍ، في لبنان.