نحن والحوت الأزرق
كتبتُ، في "العربي الجديد" قبل نحو خمس سنوات، عن تجربتي في هجر منصّة فيسبوك عاما. ومما كتبت "لم أكن من الروّاد أو حتى من السبّاقين في ولوج عالم فیسبوك، فقد كنت مكتفياً بوسائل التواصل التقليدي. وذات يوم، تسلّل إلى دواخلي شيءٌ من الغيرة المخلوطة ببعض الفضول، المعجون بقليلٍ من الرغبة المدفوعة بكثير من الضرورة للحاق بركب العصر، فكان أن افتتحت لنفسي صفحة على فیسبوك. لم تدم العلاقة بیننا طویلاً، إذ صرت أشعر نفسي شركة بلا بواب، كل من أعرف ولا أعرف یعرف عني كل ما أعرف ولا أعرف. وقبل عام بالضبط.. وفي الذكرى السنویة الأولى لوجودي في "عالم بلا فیسبوك" أستطیع القول إن الحیاة أجمل وأهدأ".
عدت أمس للبحث عن مقالي القديم لاستهل به زاوية اليوم، وخلال البحث في محرّك "غوغل" كانت المفاجأة أن آخرين كتبوا عن تجارب مماثلة خاضوها، وكتبوا عنها تحت العنوان نفسه "عام بلا فيسبوك". والأكثر إدهاشا أنهم انتهوا إلى الخلاصة نفسها التي خرجتُ بها من تجربتي. يحكي كيفن رييد، وهو كاتب ومدوّن أميركي ومصوّر فوتغرافي، لموقع Lifehack تجربته الحياتية خارج موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك مدة عام. ويقول: كنتُ أتفقد حسابي في العمل وفي المنزل وفي أوقات وجودي مع عائلتي وأصدقائي، وقبل الاستيقاظ من النوم وبعده، وفي كل الأوقات، وكان الحل الوحيد هو التوقف عن استخدام "فيسبوك" بنسبة 99% عامة، وهذه هي التغييرات التي حدثت في حياتي: مزيد من الوقت، مزيد من الراحة النفسية والذهنية، زيادة القدرة على التركيز والاندماج مع العالم الحقيقي، الاستمتاع بالحياة أكثر، التواصل الحقيقي مع الأشخاص من حولي، والتخلّص من التوتر والانفعال". ويفيد كيفين بأن هجر "فيسبوك منحه سلاماً نفسياً كان يفتقده".
وكتب محمد هاني صباغ، تحت عنوان "عامٌ كامل من دون فيسبوك": "كتبتُ قبل عامٍ مقالًا أعلن فيه إغلاق حسابي على فيسبوك، وعدم العودة إليه مجددًا. وبالفعل، لم أعد أستخدم حسابي، بل حذفتُه بالكامل. الحياة الحقيقية رائعة". ويضيف: "لعل أبرز ما لاحظته خلال تلك الفترة هو أنّ مواقع التواصل، وخصوصًا فيسبوك، تصيب المرء بأمراضٍ نفسية لا حصر لها. يصيبك فيسبوك كذلك بانفصام الشخصية، والتكبّر و الغرور. أنا الآن مسرور جدًا. لقد تخلّصت من أكبر مصدرٍ للإلهاء والعبثية في حياتي .. لا صداع، لا جدال، ولا شيء ليعكّر صفو حياتي بصورةٍ يومية، ولا إشعارات تُزعجني، ولا أخبار تكئبني .. فالحمد لله! ومن لم يتخلّص من حسابه بعد، فأدعوه إلى أن يفعل نفس الأمر".
وكتب عبدالله الريان تحت العنوان نفسه "يمضي عام كامل على انقطاعي بصورة شبه كاملة عن تواجدي على منصّات التواصل الاجتماعي، حيث كنت مستعبَدًا لا مستخدمًا، حيث كانت في قلبي، ولم تكن في يدي، كانت مسجدي، وقبلتي، ومحرابي التي أصلّي لها، وبها، كانت جامعتي الأولى التي أستقي منها العلم، ومهد قدواتي الذين أتابعهم، حيث النجاح الزائف، والغشاء السميك على البصيرة .. عام مضى تغيّرت فيه حياتي نحو الأفضل".
هذه التجارب الشخصية، وما كشفته الموظفة السابقة في "فيسبوك"، فرانسيس هوغن، خلال هجومها الحادّ على الشركة، وإقرارها أمام لجنة استماع في الكونغرس الأميركي أن منصّات فيسبوك للتواصل "تضرّ الأطفال وتعزّز الانقسام وتضعف ديمقراطيتنا"، تؤكّد أن أضرار الحوت الأزرق وأخواته يفوق أضعاف فوائدها. وبالتالي، على العالم أن يتحرّك لضبطها وقد باتت مثل حكومة ظل تُسير العالم.
وأكرّر دعوتي الرئيس الأميركي، والمجتمع الدولي، إلى الاعتراف، بكل شجاعة، بأن أخطار شركات التواصل الاجتماعي باتت أشدّ من خطر الانتشار النووي، لأن هذه الشركات، وغرف التحكم المظلمة فيها، باتت الأقدر في التأثير على الجماهير، مستفيدةً من التطور التكنولوجي، وكم المعلومات الهائل المتاح لها للتلاعب بمصائر الأفراد وقيم المجتمعات وأمن الدول، تبعًا لأجنداتٍ ربحيةٍ لا إنسانية.