نحن والغرب: حاجز نفسي وثقافي
نقتبس من حديث نبوي صورة مجازية تنطبق على الحالة الراهنة. يُخاطب المؤمنين "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه". ... تجسّد الصورة علاقة أميركا والدول الغربية بإسرائيل، انقياد أعمى وتصديق بلا تحفّظ لما تروّجه تل أبيب من ادّعاءات وما ترسمه من سياسات، فتتبعها البقية من دون تحكيم للعقل والقيم التي تميّزت بها حضارتهم، ومن دون تقيّد بمصالحهم العليا. حالة غريبة ولا عقلانية، يتجلّى خطرها على أكثر من صعيد.
ما يجري في غزّة دليل قاطع على ذلك. تكذب المصادر الصهيونية وتصدّر مزاعمها إلى العالم الغربي، وهو يتبنّاها بسرعة عجيبة، ويدافع عنها، رغم سذاجتها وسخفها أحيانا. وعندما تتهاوى تلك الادّعاءات ينتقلون إلى اختيار أكذوبةٍ أخرى من دون شرح أو اعتذار، حتى لو تسبّبت تلك الأراجيف في اندلاع حروب، وإسالة دماء أبرياء وترتّبت عنها مظالم فظيعة. جديد الأكاذيب أخيرا اتهام المقاومة الفلسطينية بارتكاب مجزرة قصف مستشفى المعمداني في غزة، وصدّقها الرئيس الأميركي بايدن!
نحن والغرب قصّة لم تنته. وأخطر فصولها ما يتعلّق بالصراع العربي الإسرائيلي. الصراع الذي كلما امتد وطال اتّضحت جسامة المأساة التي ترتّبت عنه، فالحركة الصهيونية لم تُفسد العقل اليهودي من خلال توظيفها التراث العبري، وجعلت أغلب اليهود يعتقدون أن فلسطين بأكملها ملكية خاصة بهم، في انتظار بناء مشروع إسرائيل الكبرى. واشتغل زعماؤها على ترويج هذه الأسطورة التي صدّقها الغربيون، وقرّروا منذ سنة 1948 أن يكونوا حلفاء هذه الحركة في السرّاء والضراء، رغم ما بذله بعض عقلائهم من جهودٍ للكشف عن الثغرات الكبيرة الكامنة في البنية التاريخية والدينية والسياسية لهذه السردية الصهيونية.
الذين تعلّموا من أبناء منطقتنا في الجامعات الغربية، وتخرّجوا على أيدي مدرّسيها ومفكّريها، وأتقنوا فن السياسة وحاولوا التشبه بقادة أميركا وأوروبا، يقف كثيرون منهم هذه الأيام في حيرة وضيق. ومنهم طبيب يتساءل جدّيا إن كان ما تعلموه من أفكار ومناهج ونظم حقيقة أو مجرد أكاذيب وأوهام. ويسأل: أين حقوق الإنسان التي تقوم على عدم التمييز بين الأفراد والشعوب؟ وأين الحرية للجميع؟ وأين حقّ الشعوب في المقاومة كلما تعرّضت لاضطهاد أو اغتُصبت أوطانها وجرت السيطرة بالقوة على أراضيها؟
العقل الغربي مخترَق، ويتجلى ذلك في كل مناسبةٍ يحتد فيها الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حتى يمكن القول إن المأساة الفلسطينية تشكّل الحاجز الرئيسي الذي جعل العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، بمن فيه الإخوة المسيحيون، ملغّمة ومتوتّرة باستمرار، رغم كثرة التقاطعات الفكرية وتعاظم المصالح المشتركة. حتى الرئاسة الأوكرانية المتهمة بالإرهاب من روسيا وصفت عملية 7 أكتوبر بالإرهابية، وهي التي تعرّضت بلادها لدمار واسع. حتى الأنظمة الحليفة لأميركا والغرب وجدت نفسها غير مستعدّة لمزيد من التنازل حتى لا تفقد القدرة على تأمين اوضاعها. كان موقف الأردن ومصر واضحا عندما رفضتا تهجير مليون نسمة من سكان غزّة، وهو هدفٌ خطّطت له الحركة الصهيونية منذ زمن بعيد.
كما توقّف الحوار الذي تديره واشنطن مع السعودية من أجل ترويضها على القبول بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وهو هدف استراتيجي آخر، تعمل الحركة الصهيونية على تحقيقه، نظرا إلى المكانة الدينية للمملكة ووزنها السياسي.
تغيّرت معطياتٌ عديدة، وهو ما سمح لبعض الأنظمة أن تقول للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا، وتسلك طريقا مختلفة مثلما فعلت تركيا وماليزيا ودول عديدة في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
الأكيد أن تداعيات سلبيةً ستكون لإصرار الغرب على دعم الكيان الصهيوني على الحراك الحقوقي والديمقراطي في العالم العربي، فالأنظمة المستبدّة تستغل هذه الازدواجية الغربية، لكي تتملّص من التزامها بالحقوق والحريات، مدعومة في ذلك برأي عام واسع، أصبح أكثر شكّا في نزاهة الدول الغربية. يرفض الديمقراطية التي تسمح بالتدخل في السيادة، لكن لن يلقي الرضيع مع المياه المستعملة. علينا أن نميّز بين القيم (والمبادئ) وسياسات الدول الغربية التي تتصف بالازدواجية، وتتناقض مع الشعارات التي تتغذّى بها.