نهج صيني جديد مرتقب بعد زيارة بيلوسي تايوان
أبدت معظم وسائل الإعلام الغربية دهشتها من ردود أفعال بكين تجاه زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، جزيرة تايوان يوم 2 أغسطس/ آب الجاري، واصفة هذه الردود بأنها "حادّة ومبالغ فيها". وللتدليل على صحة ما تقول، ساقت أسبابا عديدة، منها أن الزيارة ليست الأولى من نوعها تؤديها شخصية سياسية أميركية على هذا المستوى، فقد سبق للرئيس الأسبق لمجلس النواب الأميركي، نيوت غنغريتش، أن زار تايوان عام 1997 من دون أن تثير زيارته ردود أفعال على المستوى نفسه من الحدّة، ومنها أيضا أنه لم يصدر عن الإدارة الأميركية الحالية ما يفيد بأنها أوحت للسيدة بيلوسي أو شجعتها على هذه الزيارة، بل أصدرت بيانات وتصريحات رسمية تؤكد أنها زيارة لا تعكس أي تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه قضية تايوان، وأنها ملتزمة رسميا بسياسة "صين واحدة"، وأن أي إدارة أميركية لا تستطيع، في جميع الأحوال، منع أي مواطن أميركي، فما بالك إذا كان هذا المواطن رئيسا لمجلس النواب، من زيارة أي بلد يريد.
يصعب على هذا النوع من الحجج الصمود أمام أي فحص موضوعي متجرّد للوقائع والسياقات. فالولايات المتحدة عام 1997 ليست هي الولايات المتحدة عام 2022، والصين عام 2022 ليست هي الصين عام 1997، وسياق العلاقات الأميركية الصينية اليوم، وفي القلب منها قضية تايوان، يختلف تماما عن الذي كان عليه عام 1997، فحين زار غنغريتش تايوان كانت الولايات المتحدة تعيش آنذاك نشوة انتصارها في الحرب الباردة، ويتقمّصها شعور طاغ، ليس فقط بجدارتها وأهليتها لقيادة العالم، وإنما أيضا بأحقيتها في الهيمنة المنفردة على النظام العالمي ككل، فالاتحاد السوفييتي كان قد اختفى من خريطة العالم، وكانت وريثته روسيا في أشد حالات ضعفها وانكفائها على ذاتها، ومنشغلة في المقام الأول بإصلاحاتها الداخلية. أما الصين فكانت قد انعتقت بالكاد من قيود التخلف، وبدأت تضع قدمها على أول طريق الانطلاق والتقدّم. ورغم إحساسها منذ ذلك الحين أن الولايات المتحدة تعمل جاهدة على استغلال قضية تايوان لعرقلة انطلاقتها نحو التنمية، إلا أنها بدت في ذلك الوقت معنيةً أكثر بكل ما من شأنه بناء قدراتها الذاتية في مختلف المجالات، وعدم الالتفات إلى أي قضايا جانبية قد تؤدي إلى عرقلة انطلاقتها نحو المستقبل. صحيحٌ أن الصين كانت، منذ اللحظة الأولى، تعتبر أن قضية تايوان بالنسبة لها قضية سيادة ووحدة تراب وطني، ومن ثم لا يمكن التهاون فيها أو تقديم أي تنازلاتٍ بشأنها، إلا أنها كانت على استعداد للتسلح بالصبر وبسياسة النفس الطويل للوصول إلى هدفها النهائي الساعي إلى دمج تايوان في ترابها الوطني باستخدام الوسائل السلمية، وهو ما يفسّر لماذا بدا رد فعلها على زيارة غينغريتش منذ ربع قرن أقلّ حدة من رد فعلها على زيارة بيلوسي منذ أيام. أما اليوم فالوضع مختلف تماما، فلا الولايات المتحدة اليوم هي نفسها ما كانت عليه عام 1997، وكذلك الأمر بالنسبة للصين، وما كان يمكن للصين قبوله أو التغاضي عنه عام 1997 لم يعد كذلك عام 2022.
تدرك الصين يقينا أن تايوان صنيعة أميركية، وأن الولايات المتحدة لن تتخلى عنها بسهولة
في سياق كهذا، من المشروع أن نتساءل بشأن حقيقة الأسباب التي حدت بنانسي بيلوسي للإقدام على خطوة تدرك يقينا أنها ستسفزّ الصين، رغم التعاظم المستمر في مكانتها الدولية، وفي وقت يشهد فيه العالم حربا كونية مشتعلة بالنار على الساحة الأوكرانية، وتكاد القوى الدولية الكبرى تكون منخرطة فيها بشكل أو بآخر، وهو سؤال يبدو لي أقل إلحاحا من السؤال المتعلق برد الفعل الصيني، والذي بدا لي في الواقع أقل مما كان متوقعا. وفي تقديري، يصعب على أي مراقب محايد أن يصدّق مقولة أن لا شأن لإدارة بايدن بزيارة بيلوسي، أو أن هذه الزيارة جرت لأن لكل مواطن أميركي الحق في زيارة أي بلد يشاء، أو أنها لا تعكس تغيرا في السياسة التي تنتهجها كل الإدارات الأميركية تجاه الصين منذ زيارة نيكسون الشهيرة عام 1972. لذا من الطبيعي والمنطقي افتراض وجود قوى سياسية في الداخل الأميركي سعت ودفعت إلى القيام بهذه الزيارة التي يعتقد أنها حظيت بتغطية سياسية ضمنية من إدارة بايدن، وهو ما تعتقده الصين، ويبدو أنها تصرّفت على أساسه.
تدرك الصين يقينا أن تايوان صنيعة أميركية، وأن الولايات المتحدة لن تتخلى عنها بسهولة، فلولاها لما وجدت هذه المشكلة أصلا. ومعروف أن الولايات المتحدة هي التي تولت حماية حكومة تشانج كاي شيك، عقب هروبها إلى جزيرة تايوان بعد استيلاء الحزب الشيوعي الصيني على السلطة في بكين عام 1949، وهي لم تكتف بهذا، وإنما أصرّت على اعتبار الحكومة القائمة في تايوان هي الممثل الشرعي الوحيد لدولة الصين في مختلف المؤسسات الدولية، وخاضت داخل أروقة الأمم المتحدة معركة سياسية وقانونية شرسة من أجل تثبيت شرعية هذه الحكومة العميلة، وهي معركة تستحق أن تُروى تفاصيلها في مقالة منفصلة. بل لم تشعر الحكومات الأميركية المتعاقبة بأي نوع من الخجل أو الخزي، وهي ترى حكومة تايوان تشغل مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن، في مشهد بدا مثيرا للسخرية، واستمر حتى ما بعد زيارة نيكسون الصين. وعلى الرغم من النجاح الساحق في فرض سياسة "صين واحدة" على كل الدول، وتمكّن الصين من طرد ممثلي حكومة تايوان من كل المؤسسات الدولية الحكومية، إلا أنها قبلت، في الوقت نفسه، الالتزام بالوسائل السلمية، وبعدم اللجوء إلى القوة المسلحة في أي إجراءات تستهدف دمج تايوان في الوطن الأم.
لن تتسامح الصين مع أي سياسات أميركية تشجع على انفصال تايوان، وستقاومها بكل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة المسلحة إن لزم الأمر
الآن، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه السياسة الصبورة لحكومة بكين، يبدو أن الأمور في طريقها إلى التغير سريعا. ولا يستبعد الكاتب هنا أن تشكل زيارة بيلوسي تايوان نقطة تحول في التفكير الصيني تجاه الأساليب التي ينبغي اللجوء إليها في المستقبل، لضمان دمج تايوان في الوطن الأم، حتى لو اقتضى الأمر التخلي عن الوسائل السلمية المستخدمة حاليا وانتهاج وسائل أكثر عنفا. فمن المقطوع به أن الصين لن تقبل مطلقا، تحت أي ظرف، التخلي عن الجزيرة التي تعتبرها جزءا من الأراضي الصينية التي ينبغي أن تعود، عاجلا أو آجلا، إلى أحضان الوطن الأم. ولأنها تحلت بالصبر وبالنفس الطويل خمسين عاما، يبدو أن الصين كانت تأمل خلالها أن يؤدّي التزام الولايات المتحدة بسياسة "صين واحدة" إلى تحلي الإدارات الأميركية المتعاقبة برغبة صادقة في مساعدتها على دمج تايوان في الوطن الأم بالوسائل السلمية، أو، على الأقل، الامتناع عن القيام بأي إجراءات من شأنها عرقلة جهودها الرامية إلى تحقيق هذا الدمج بالوسائل السلمية. ولكن ما حدث كان العكس تماما، فكل الشواهد تدل على أن الولايات المتحدة تبذل كل ما في وسعها ليس فقط لعرقلة الجهود الرامية إلى دمج تايوان في الصين بالوسائل السلمية، وإنما أيضا إلى حث المؤسسات الرسمية والأهلية وتشجيعها على الانفصال عن الوطن الأم، وهو ما لا يمكن للصين أن تقبله أن تسكت عليه بأي حال.
يبدو أن الصين بدأت تدرك الآن أن الوقت لم يعد في صالح عملية الدمج بالطرق السلمية، خصوصا في ظل ممارسة الولايات المتحدة سياسة مزدوجة توحي رسميا بأنها تؤيد وتدعم "صين واحدة"، لكنها فعليا تقوم بكل ما من شأنه مساعدة تايوان على الانفصال. لذا لا أظنني أبالغ إذا كتبت هنا أن الصين أصبحت منذ الآن، خصوصا عقب زيارة بيلوسي، مهيأة وجاهزة لاتباع نهج جديد. هذا لا يعني أن الصين ستغزو قريبا الجزيرة عسكريا، ولكنه قد يعني أن الصين لن تتسامح مع أي سياسات أميركية تشجع على انفصال تايوان، وستعمل على مقاومتها بكل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة المسلحة إن لزم الأمر.