نوح إبراهيم في البحرين
يشتهر الشاعر الشعبي الفلسطيني، نوح إبراهيم، بأنه صاحب قصيدة "من سجن عكا.."، التي احتفلت بالشهداء، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، الذين أعدمهم الاحتلال البريطاني في العام 1930، وقد غنّتها فرقة العاشقين وغيرها. ولهذا الشاعر الذي استشهد شابّا عن 25 عاما، مع ثلاثةٍ من رفاقه، برصاص جنود بريطانيين في جريمةٍ غادرةٍ في 1938، أهازيج وقصائد وأغنيات فلسطينية ذائعة، تعد من عيون الفلكلور الغنائي الفلسطيني، وما يزال بعضها يُرَدّد في هتافاتٍ وطنيةٍ ومظاهراتٍ وفعالياتٍ ضد المحتل الإسرائيلي. وإلى شهرته هذه، كان مغنيا، وانكتب عنه أن شخصيته كانت مرحة. وعرف بانتسابه إلى ثورة 1936، وبأنه كان قريبا من الشيخ عز الدين القسام. وقد غنّى له فيلمون وهبي الذي أقام في فلسطين في بعض الثلاثينيات قصيدةً راجت كثيرا، "دبّرها يا مستر دل"، وسخر فيها نوح إبراهيم من جنرال بريطاني، أنيط به القضاء على الثورة، وتسبّبت باعتقال كاتبها الشاعر خمسة أشهر.
الظاهر من سيرة هذا الاسم الفلسطيني المضيء أن حياته القصيرة كانت غنيّةً عن حق، بما واكبها من دراما الفقر واليتم المبكّر، والاعتقالات، والترحال، والنضال، ثم الاستشهاد. وليس مشهورا بين عارفي أغنيات هذا الفنان أنه عاش في البحرين نحو عام ونصف العام، وارتجل فيها أهازيج في حبّها، منها المتناثر والمفقود. وكتب عارفون لسيرته أنّه لمّا اشتعلت ثورة 1936 في فلسطين، ووصلت أخبار عنها إلى البحرين، عزم على العودة إلى وطنه، "لأنه ما عاد الكلام ينفع مع هؤلاء الجلادين"، على ما قال لصديقه الذي استقدمه من العراق، وحاول أن يستبقيه في البحرين، وكان يقصد الإنكليز المحتلين واليهود الصهاينة.
يُستعاد نوح إبراهيم في هذه السانحة، ونحن اليوم في المصاب الفادح الذي أقدم عليه حكّام البحرين، في إقامة اتفاقية تطبيعٍ واستسلامٍ مع إسرائيل، سارع شعب هذا البلد إلى رفضها، وتأكيد ارتباطهم بفلسطين شعبا وقضية. ومن شديد الوجوب في هذا المقام أن نقرأ عن الصلة الخاصة بين أهل البحرين وفلسطين، بين هذا البلد في أقصى الخليج (الثائر بحسب صفة له، بعيدةٍ ومنسيةٍ) ونضال الشعب الفلسطيني، منذ وعد بلفور. ومن بين أبحاثٍ اعتنت بتوثيق هذا كله، ثمّة كتاب الراحل خالد البسام "كلنا فداك .. البحرين والقضية الفلسطينية 1917 – 1948" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005)، والذي ينوّه به كاتب المقالة في هذه المساحة من "العربي الجديد" للمرة الثالثة. وبحسب الكتاب، فإن وعي الشارع البحريني بالقضية الفلسطينية راح يكبر مع الوقت، وخصوصا بعد انتفاضة 1936، "وساهم الشاعر الفلسطيني والخبير الفني بمطبعة البحرين، نوح أفندي إبراهيم، آنذاك، في المساهمة الفعالة في تنوير البحرينيين، بحقائق عن تلك الانتفاضة والأوضاع في فلسطين".
واحدٌ من أهالي البحرين جاء بالشاعر من عمله في مطبعةٍ في بغداد، للعمل خبيرا فنيا في مطبعة البحرين، ولتدريب عمّالٍ فيها، استعدادا لإصدار أول صحيفة بحرينية، وهو ما كان. سافر بمركب من ميناء البصرة إلى ميناء المنامة. وسعد بالإقامة في البلد، وبعمله. وكان كثيرون من أهل المحرّق والمنامة يحرصون على القدوم إلى مجالس كان يتحدّث فيها الشاب الموهوب عن فلسطين ونضال شعبها ضد الإنكليز والعصابات الصهيونية. وفي الأثناء، غنّى للبحرين "بلد اللؤلؤ"، أنها تُكرم الضيف صيفا وشتاءً. وعلى الرغم من مقامه الطيب، آثر المشاركة في الثورة الفلسطينية المشتعلة، فغادر على سفينةٍ إلى ميناء البصرة، ثم تدبّر أمره للوصول إلى فلسطين، ولم يستجب لإلحاح أصدقائه في البحرين البقاء. وانكتب أنه أوصى مودّعيه وأصحابه ومعارفه في هذا البلد المضياف: "إذا لم تجاهدوا في فلسطين بالنفس فجاهدوا بالمال".
لم يبخل البحرينيون يوما على فلسطين، بالمال وغيره. وكتب عنها شاعرُهم، إبراهيم العريّض، ملحمته "أرض الشهداء"، في العام 1951. أما الحاكمون الذين خرجوا عن درب أهل البحرين في نصرة فلسطين، ويوقّعون اليوم الاتفاقية المعيبة، فلا صلة لهم بالقيم التي اعتنقها العرّيض، وخانوا ناسا في المحرّق والمنامة، أقام بين ظهرانيهم شاعرٌ فلسطينيٌّ جميلٌ اسمه نوح إبراهيم.