نوستالجيا الماضي توقدها استعصاءات العصر

16 يناير 2024

(يوسف فطيس)

+ الخط -

دُعيت ذات مساء من شهر أغسطس/ آب من العام 2020، مع مجموعة الروائيين العشرة الحاصلين على منحة أدبية من وزارة الثقافة في برلين، إلى أمسية أدبية، يقرأ كل روائي فقرة من نصّه، كان اللقاء على مشارف بحيرة تدعى "فانزيه" جنوب غرب برلين حيث الفيلّات الفخمة، لم أكن أعرف حينها أن هذه الفيلا التي ترقى إلى القصر، حيث كانت الأمسية، شهدت أحداثًا مهمة في تاريخ ألمانيا، وفي التاريخ عمومًا، وهذا تقصير منّي، عندما التقى في "فيلّا مارلير" منذ أكثر من ثمانين عامًا، في العام 1942، وفي العشرين من يناير/ كانون الثاني قادة النازية في اجتماع سرّي، لتنظيم ما سمّي "الحلّ النهائي للمشكلة اليهودية"، صار هذا الاجتماع يسمّى اجتماع "بحيرة فان" أو "فانزيه".
شاءت المصادفة أن يعقد اجتماع سرّي أيضًا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 في فندق لاندهاوس أدلون المطل على بحيرة لينتسزي في مدينة بوتسدام بالقرب من برلين، ولا تبعد إلّا بضعة كيلومترات عن بحيرة فان كشف عنه أخيرا، بحسب ما أوردت منصّة تحرّي الحقائق الألمانية "كوركتيف"، فإنّ أعضاء من حزب البديل من أجل ألمانيا ونازيين جددا ورجال أعمال من ألمانيا والنمسا اجتمعوا للبحث في خطةٍ لطرد الأجانب، أو حاملي الجنسية الألمانية من أصول مهاجرة. حضر الاجتماع ممثلون عن اليمين من خارج ألمانيا منهم النمساوي مارتن زيلنر، وأعضاء جمعية تطلق على نفسها اسم "اتحاد القيم (Werteunion)، وهي جمعية تضم في عضويتها أيضاً أفراداً من أقصى اليمين في الحزبين، الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي (البافاري) المعارضين وآخرين، ويرأسها الرئيس السابق لمكتب حماية الدستور (الاستخبارات الداخلية الألمانية)، هانز-غيورغ ماسن، بحسب ما جاء في صحيفة ديرشبيغل، وقدّم المؤسس المشارك لحركة الهوية اليمينية المتطرّفة، مارتن زيلنر، مشروعاً لإعادة حوالي مليوني شخص من طالبي اللجوء والأجانب وحملة الجنسية الألمانية الذين لم يتم اندماجهم، إلى شمال إفريقيا، والهوية المقصودة هنا، بحسب زيلنر، هي هوية "إعادة التهجير" التي تضع محدّداتها وترسمها رؤية الأحزاب اليمينية للأجانب.

أوروبا تعاني، والفرد الأوروبي يقف متسائلاً عمّا قدّمت حكوماته الحالية من حلول حول مشكلات تؤرّقه

الماضي، على ما يبرهن تاريخ الشعوب، لا يموت، بل يبقى في حالة كمون، ينتعش من جديد كلّما ضاقت سبل العيش لدى الشعوب، أو كلّما تضرّرت مصالح بعض من الأفراد "الأنانيين" الذين يروْن الحياة انطلاقًا من مصلحتهم الشخصية فقط، فتنتعش النزعة العنصرية والشعور بالأحقيّة على أرضية "التفوّق"، هذه النزعة نلمسها لدى معظم الجماعات الراديكالية المتطرّفة، دينية كانت أم قومية، وكل واحدة تعتبر نفسَها "شعب الله المختار"، لا تستثنى منها الجماعات الإسلامية المتطرّفة بالطبع، التي تريد تطويع العالم وفرض شريعتها.
أوروبا في أزمة حقيقية، بل والعالم كلّه، ولم تكن أزمة كوفيد 19 سوى الشرارة الأولى، تبعتها الحرب الروسية على أوكرانيا، إلى أن وصلنا إلى الأحداث الحالية في غزّة وفلسطين عمومًا، ولقد بدأت الأصوات المناهضة للهجرة ترتفع في غير بلد أوروبي من الأحزاب اليمينية، مع تدفّق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين التي رافقت ما سمّي الربيع العربي، ولم تكن موجات اللاجئين مقتصرةً على الدول التي انزلقت إلى الحرب وحافّة الانهيارات كسورية واليمن وليبيا ولبنان فحسب، بل يمكن القول إن جزءًا كبيراً من "عالم الجنوب" يعاني، ولديه من المشكلات المتجذّرة ما يكفي ليكون دافعاً إلى الهجرة باتجاه "عالم الأحلام" أوروبا بشكل خاص.
لكن الأمور لم تعد كما في السابق، أوروبا تعاني، والفرد الأوروبي يقف متسائلاً عمّا قدّمت حكوماته الحالية من حلول حول مشكلات تؤرّقه، فهناك قضايا يُنظر إليها بقلق لدى المجتمعات الأوروبية، لم تقدّم الحكومات الحالية تصوّراً واعداً عن مواجهتها: قضايا مرتبطة بالهوية والخوف من فتح الحدود وبالتالي تآكل الهوية الوطنية والقيم التقليدية، وعلى المستوى الاقتصادي نما رفض للعولمة واستياء من عدم ضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة، بعدما أظهرت جائحة كوفيد بعض النتائج الكارثية بسبب العولمة، كانت مشكلة "الكمّامات" أبسط مثال عليها، ثم العدالة الاجتماعية التي بات المواطن الأوروبي يسأل عنها مع تنامي الشعور بأن الحكومات الوطنية لا تتحكّم في القواعد التي تحكم حياة المواطنين، ومثال على هذا القضايا التي يدور حولها سجالٌ حامٍ بين أطراف الحكومة الحالية في ألمانيا، وبينها وبين المعارضة أيضًا، خاصة بالنسبة للمساعدات التي تمنح لطالبي اللجوء واللاجئين.

من ينظر اليوم إلى أوروبا، في كل أنحائها، يرى صعود أحزاب يمينية متطرّفة بصبغات مختلفة

من ينظر اليوم إلى أوروبا، في كل أنحائها، يرى صعود أحزاب يمينية متطرّفة بصبغات مختلفة، فهناك أحزاب قومية متعطشة لأمجاد الماضي، وأخرى قومية شعبوية، وكذلك محافظة متشدّدة ذات جذور فاشية جديدة، وغيرها من الأحزاب اليمينية المتطرّفة التي باتت تحظى بشعبيةٍ لا يستهان بها، ولقد وصل بعضها إلى الحكم، وبعضها الآخر تتصاعد شعبيّته، حتى هنا في ألمانيا التي لا تزال حسّاسة للغاية تجاه ماضيها النازي، فإن حزب البديل اليميني المتطرّف قد يكون متفوّقًا على حزب المستشار شولتز، الاشتراكي الديمقراطي (SPD) أو في أسوأ الأحوال يوازيه، ولا يُخفي هذا الحزب موقفه تجاه اللاجئين، فهو يطالب بشكل علني بـ "الهجرة العكسية". بل ظهر كارستن بيكر، رئيس فرع حزب البديل في ولاية زارلاند، العام الماضي في فعالية مدرسية في ولايته مرتديا قميصا مطبوعا عليه "شعبنا أولًا. الاكتفاء الذاتي - السيادة – الهجرة العكسية"، وهو عنوان حملة أطلقتها "حركة الهوية" اليمينية المتطرّفة.
لا يمكن إغفال نهوض اليمين المتطرّف في أوروبا، ولا يمكن المرور بشكل عادي على الاجتماع السرّي الذي عقد في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وكشفت عنه منصّة تحرّي الحقائق الألمانية "كوركتيف"، فهل بات الملايين من الناخبين الأوروبيين يميلون حقًا إلى اليمين المتطرّف؟ أم أن هذا ليس أكثر من تصويت احتجاجي في وجه الحكومات الحالية؟ أم هو علامة على الاستقطاب بين الناخبين الليبراليين في المناطق الحضرية والبقية المحافظة؟

يشهد العالم اليوم مرحلة عصيبة، تلوح في أفقه انبثاقات مقلقة لهويات شوفينية جديدة، قومية ودينية

في مرحلة النازية، استهدفت عمليات القتل من الحزب النازي الألماني، المؤمن بتفوّق عرقه الآري على بقية الأعراق، اليهود بشكل أساسي، لكنه قتل غيرهم من مجموعاتٍ أخرى، بمن فيهم الغجر وذوو الإعاقات والمثليون والمعارضون السياسيون، واضطهدوا كل الأشخاص الذين اعتقدوا أنهم غير جديرين بأن يكونوا أعضاء في المجتمع الألماني، هذا يوقد أفكاراً مشابهة اليوم لدى جمهور الأحزاب اليمينية الواعدة، ويزيد من عنصريّته تجاه الآخرين، حتى لكأن عنوان المرحلة الحالية ينجلي شيئاً فشيئاً، بعدما استطاع الغرب تعزيز قيم العدالة والإخاء والمساواة والحرية والديمقراطية، أو هكذا كانت الأمور توحي بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ووحدة الألمانيتين. في هذا الصدد، تقول كاتيا أدلر، محرّرة الشؤون الأوروبية في بي بي سي: "كنت أعيش في فيينا في عام 2000 عندما تحالف حزب ينتمي إلى تيار اليمين الوسط لأول مرة مع حزب الحرية اليميني المتطرف، لتشكيل ائتلاف حكومي. تصدّر ذلك الحدث الصفحات الأولى للصحف في جميع أنحاء العالم. حتى أن الاتحاد الأوروبي فرض حينها عقوبات دبلوماسية على فيينا". لكن الأمور لم تعد هكذا، بل بدأ المخطط البياني بالانحدار منذ الأزمة العالمية في 2008، والتي ما زال قسم من المجتمع الألماني، والأوروبي عمومًا، يعاني من تبعاتها، ترافقت هذه الاستعصاءات والأزمات المتلاحقة مع الثورة المعلوماتية المتسارعة، والعولمة وما نجم عنها، والحروب التي تديرها طغمة رؤوس الأموال في العالم.
هل تُدقّ الأسافين باطراد اليوم ليزداد الشرخ بين عالمي الشمال والجنوب؟ يزداد الشرخ، والأحزاب اليمينية المتطرّفة تلهث في طريقها إلى استلام أدوات القرار، وانتخابات البرلمان الأوروبي قادمة، فهل يفوز اليمين؟ اليمين الذي يلعب في مجالات "آمنة" في مواقفه وتصريحاته، أملًا في كسب الناخبين، فهو كما تقول خبيرة الشؤون الأوروبية في كلية لندن للاقتصاد، والمتخصّصة في شؤون حركات اليمين المتطرّفة، مارتا لوريمر، إن "اليمين المتطرّف يسعى إلى تعزيز وجوده في أوقات الأزمات إذ يمكن لأحزاب اليمين إيجاد طريقة لجعل الأمر يصبّ في صالح أساسياتها". وها هو في بعض الدول الأوروبية يغيّر أو يعيد صياغة تصريحاته تجاه الحرب في غزّة، خصوصا بعد المظاهرات الشعبية التي اجتاحت مدنا وعواصم أوروبية عديدة.
يشهد العالم اليوم مرحلة عصيبة، تلوح في أفقه انبثاقات مقلقة لهويات شوفينية جديدة، قومية ودينية.