هجمات "البيجر" مُؤشّر حرب أوسع
على الرغم من معارضة واشنطن مبدأ اتساع الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني في قطاع غزّة إلى خارج حدوده، إلّا أنّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، استطاع، فيما يبدو، أن يجعل حلفاءه أمام أمر واقع، أعني الاستمرار بالحرب مع الموافقة على التفاوض لمُجرَّد التفاوض، كما استطاع إيجاد الشروط الميدانية التي باتت مغريةً أكثر لاستمراره في الحرب. وليس بالضرورة أن تكون هذه الحرب محصورة في غزّة، بل من المرجّح أن تمتدّ إلى حدود فلسطين الشمالية، ما يوجب على جيش الاحتلال استهداف حزب الله أو دخول مواجهة معه في جنوب لبنان، وهو ما تشير إليه، وربّما تُؤكّده، تفجيرات "البيجر" التي نفّذتها تلّ أبيب ضدّ الحزب يوم الثلاثاء. ويمكن اختزال العوامل التي من شأنها دفع نتنياهو إلى حرب أوسع بما يلي:
أولاً، منذ السابع من أكتوبر (2023)، استطاعت إسرائيل استهداف أكثر من 500 شخصية قيادية عسكرية من حزب الله، ولئن كان من الصحيح أنّ جميعها ليست في المستوى نفسه من الأهمّية والكفاءة، لكنّ عدداً منهم قادة عسكريون من الصفّ الأول، وتحييد القوات الإسرائيلية لهم سيترك فراغاً عسكرياً وميدانياً واضحاً ضمن صفوف الحزب، وهو ما يعتبره نتنياهو فرصةً لعملية عسكرية في الوقت الراهن.
ثانياً، لعلّ التزام نظام الأسد في سورية، وحرصه الشديد على تحاشي أيٍّ من أشكال المشاركة في حرب غزّة، قد عزّز القناعةَ لدى الحكومة الإسرائيلية بأنّ المجال اللوجستي السوري بات مغلقاً أمام المليشيات المنتشرة هناك، ولعلّه من الطبيعي أن يعمل نتنياهو على استثمار موقف نظام الأسد النائي كلّياً عمّا يجري، وكذلك استثمار تحييد المجال الجغرافي السوري عن أن يكون منطلقاً لأيّ جهة معادية لإسرائيل.
سلاح الإشارة (الاتصالات)، هو عصب المعركة، وضربه يعني إحداث حالة من الشلل والإرباك والفوضى في صفوف قوّات الخصم
ثالثاً، ربّما كان زعم إيران باعتمادها مبدأ "الصبر الاستراتيجي" قد أوجد ذريعةً مناسبةً جداً لنتنياهو بالمضي في النفخ في مزامير الحرب، وخاصّةً أنّ الردّ الإيراني على الضربات الإسرائيلية الموجعة التي تتلقاها، طهران ومحورها، لا يزال خجولاً ومحدوداً إلى حدّ أثار حفيظة مُؤيّديها، الأمر الذي يجعل حكومة إسرائيل تركن إلى قناعة تامّة بأنّ طهران لن تكون طرفاً في حرب شاملة تشنّها على جنوب لبنان، ولعلّ أقصى ما يمكن أن تقوم به طهران في هذه الحالة تقديم الدعم العسكري لأذرعها (الطائرات المُسيَّرة)، وحتّى هذا الدعم باتت إسرائيل تمتلك قدرة تامّة على احتوائه، على الأقلّ كما يبدو حتّى اللحظة.
رابعاً، من الواضح أنّ أيّ عملية عسكرية إسرائيلية شاملة ضدّ حزب الله تبدو ليست ضرورية فحسب، بل حاجة إسرائيلية وفقاً لحسابات نتنياهو، من جهة أنّ الأخير أصبح بحاجةٍ ماسَّةٍ لاستعادة الثقة التي فقدها لدى الرأي العام المحلّي، نتيجة المباغتة الكبيرة التي أحدثتها عملية "7 أكتوبر"، التي كان لها ارتدادات عميقة على الإسرائيليين نفسياً واجتماعياً وسياسياً. أضف إلى ذلك النزوح السكّاني الإسرائيلي من مدن الشمال نتيجةَ الخوف من تداعيات الحرب، ربّما هذا كلّه يجعل نتنياهو يميل إلى الاعتقاد أنّ أيّ عملية عسكرية إسرائيلية كاسحةٍ لجنوب لبنان سوف تساعد في عودة النازحين الإسرائيليين إلى مدنهم، وتسهم في استعادة الثقة بحكومته. يعزّز ما سبق ويؤكّده استهداف الكيان الصهيوني، الثلاثاء الماضي، الشبكة اللاسلكية الخاصّة بحزب الله (البيجر) بهجوم، وهي شبكة منفصلة مؤسّسات الدولة اللبنانية، يستخدمها قادة الحزب وعناصره، ونجم عنها إصابة نحو أربعة آلاف عنصر وقيادي، بالإضافة إلى عدة قتلى.
من الواضح أنّ أيّ عملية عسكرية إسرائيلية شاملة ضدّ حزب الله تبدو ليست ضرورية فحسب، بل حاجة إسرائيلية وفقاً لحسابات نتنياهو
يدرك حزب الله تماماً الأهمّية البالغة لسلاح الإشارة في المعركة مع إسرائيل، التي تمتلك تقنيةً تكنولوجيةً مُتقدّمة، ليس على الحزب وداعميه (إيران) فقط، بل أيضاً على دول المنطقة كافّة، ما جعله يتجنّب استخدام أجهزة الاتصال اللاسلكية في حرب تموز 2006، ويعتمد أجهزة اتصال سلكية خاصّة به، ودفعت به في أغسطس/ آب 2008 لاجتياح العاصمة بيروت، من أجل الحفاظ على تلك المنظومة.
ومعروف في العلم العسكري أنّ سلاح الإشارة (الاتصالات)، هو عصب المعركة، وضربه يعني إحداث حالة من الشلل والإرباك والفوضى في صفوف قوّات الخصم، وتعطيل منظومة القيادة والسيطرة، ما يُؤدّي إلى حالة من الإرباك وزعزة الثقة بين مستويات القيادة كافّة. وإسرائيل، التي لا تستطيع أن تعيش من دون حروب، ورئيس حكومتها المأزوم من حرب غزّة، التي لم يتمكن من تحقيق نصر حقيقي فيها، سوى القتل والتدمير، ربّما أراد من شنّ هذه العملية، في وقت متزامن شمل بيروت وجبل لبنان والضاحية الجنوبية وصولاً إلى سورية، أن تكون مُقدّمة لشن عملية برّية وشيكة لاجتياح جنوب لبنان، لطالما طالب بها قادة اليمين المُتطرّف، وهي في الحرب الحديثة التي تعتمد التكنولوجيا والحرب الرقمية، تعتبر بديلاً عن التمهيد المدفعي في العمليات العسكرية التقليدية.