هذا التصعيد في الأزمة الإثيوبية الصومالية وفرص التسوية
دخلت العلاقات الإثيوبية الصومالية في منعطف جديد بعد آخر أزمة دبلوماسية اشتعلت بتوقيع أديس أبابا مذكّرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال (صوماليلاند) الانفصالي في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، ما دفع مقديشو إلى استدعاء سفيرها من أديس أبابا. لكن الخلافات سرعان ما تصاعدت حدّتها بدل أن تخبو جذوة الأزمة، بعد توقيع اتفاقية بين وزير المالية في بونتلاند، محمد فارح محمد، ووزير الدولة للشؤون الخارجية الإثيوبية، ميسغانو أرغا، ما دفع حكومة مقديشو إلى طرد السفير الإثيوبي لدى الصومال، وإغلاق قنصليات إثيوبيا في كلّ من جروي (عاصمة بونتلاند) وهرجيسا (عاصمة أرض الصومال). في المقابل، التزمت إثيوبيا الصمت إزاء ما يتعلق بتفاقم خلافاتها مع الحكومة الفيدرالية، ولم تعلّق حتى كتابة هذه السطور على طرد سفيرها، ما يوحي بأنّ أديس بابا تدرس خيارها للردّ على موقف مقديشو، التي يبدو أنّها آثرت خيار التصعيد الدبلوماسي، وهو ما ترى فيه حقّاً طبيعياً لحماية استقلالها ووحدة أراضيها، ومواجهة ما تصفه بـ "التدخّلات الإثيوبية الفجّة" في شؤونها الداخلية منذ عقود.
تُعدّ إثيوبيا لاعباً رئيساً في منطقة القرن الأفريقي، ومارست سياسة التدخّل في الشأن الصومالي منذ انهيار الدولة المركزية في الصومال عام 1991، كما شاركت في هندسة النظام الفيدرالي المعمول به في الصومال، وسعت إلى إضعاف الحكومات المركزية في مقديشو بالتعاون مع الحكومات المحلّية، خصوصاً كيان أرض الصومال وولاية بونتلاند، بممارسة ضغوط على الحكومة الفيدرالية، وتوفير الدعم لتلك الولايات عند بروز أيّ خلاف سياسي بين الولايات الفيدرالية والحكومة المركزية في مقديشو. وتقف عدة أسباب وراء طرد السفير الإثيوبي من الصومال وإغلاق القنصليات الإثيوبية، الذي عُدَّ مؤشّراً حقيقياً لانهيار جهود الوساطة ومحاولات التقريب بين الصومال وإثيوبيا، منذ توقيع مذكرة التفاهم بين أرض الصومال وإثيوبيا في يناير/ كانون الثاني الماضي، وتعزو مقديشو أسباب اتخاذها قرار طرد السفير الإثيوبي إلى استمرار الخروق الإثيوبية في الشأن الداخلي الصومالي، من خلال التنسيق مع الولايات الفيدرالية عبر توقيع اتفاقيات اقتصادية وأمنية، من دون علم السلطات المركزية في مقديشو، وتبنّيها سياسة "التجاهل" لمطالب مقديشو بشأن التوقّف عن تدخّلاتها والانسحاب من الاتفاقيات الطرفية مع الولايات الفيدرالية (أرض الصومال وبونتلاند). كما أنّ أطرافاً إقليمية لها اليد الطولى في تأجيج النزاع بين الصومال وإثيوبيا، ولها صلة مباشرة أو تأثير قوي في سياسات الدول الإقليمية، خصوصاً إثيوبيا وأرض الصومال وبونتلاند، التي تربطها سياسة متّصلة ذات توجّه واحد، هدفها إضعاف مكانة السلطة المركزية في مقديشو، في مقابل استقواء الولايات الفيدرالية بإثيوبيا في صراعاتها مع الحكومة الصومالية.
مستقبل التعاون الدبلوماسي بين مقديشو وأديس أبابا يواجه مصيراً مجهولاً ومسارات وعرة
أثارت الاتفاقية التعاونية بين مقديشو وأنقرة في 8 فبراير/ شباط الماضي أزمة إقليمية، وقلق دول خليجية (السعودية والإمارات) بشأن مستقبل الحضور التركي في البحر الأحمر عبر مياه الصومال، ويبدو أنّ تلك الأطراف حرَّكت قيودها في الإقليم (خصوصاً إثيوبيا وبونتلاند التي لديها شراكة أمنية مع الإمارات) بهدف فرض قطيعة بين الحكومة الفيدرالية من جهة، وبونتلاند وأرض الصومال من جهة أخرى، ولقطع الطريق أمام تمرير الاتفاقية الأمنية التركية الصومالية وتنفيذها، التي بموجبها سترسل تركيا فرقاطة عسكرية إلى البحر الأحمر لحماية السواحل الصومالية.
لكلّ فعل ردّة فعل تساويه في القوّة وتعاكسه في الاتجاه، وفق النظرية الفيزيائية. ولهذا، فإنّ انهيار العلاقات بين مقديشو وأديس أبابا، سيكون له تداعيات سياسية وأمنية في منطقة القرن الأفريقي، سيترتب عليها جملة من التبعات، في مقدّمتها إعلان القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، ما يعني انهيار الشراكات السياسية بين الجانبين، التي كلّلت باتفاقيات سياسية وأمنية، منذ مجيء رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، إلى السلطة في عام 2018، مما قوّى شوكة الحكومة الصومالية، وأغلق مسار العلاقات بين إثيوبيا والولايات الفيدرالية. لكن مع إعلان القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، فإنّ إثيوبيا ستفتح أبوابها لقيادات الولايات الفيدرالية في الصومال، بالإضافة إلى انهيار العلاقات الاقتصادية في حال أغلق الصومال مجاله الجوي أمام الطائرات الإثيوبية وتوقّفت رحلات الخطوط الجوية الإثيوبية إلى مناطق الصومال، التي تعدّ مُربحة للغاية في ظلّ عدم توفّر خطوط رخيصة وملائمة للصوماليين. هذا إلى جانب وقف التجارة العابرة للحدود بين البلدين، ما يكبّد الاقتصاد الإثيوبي خسائر فادحة، لا سيّما إذا توقّفت صادرات القات والخضار إلى مناطق الصومال. وقد ينهار التعاون الأمني بين البلدين إذا اتخذت مقديشو قرار إنهاء عمل بعثة القوات الإثيوبية الموجودة في الصومال (4000 جندي) ضمن قوات حفظ السلام الأفريقية الانتقالية (أتمس)، وهو ما يؤثر سلباً على أمن المناطق الحدودية بين البلدين، ويمنح حركة الشباب، الموالية لـ"القاعدة"، حرّية الحركة والانتقال بين المناطق الجنوبية والوسطى في البلاد.
لم تشهد إثيوبيا مواقف جادّة وصارمة من الحكومات الصومالية المتعاقبة كتلك التي تواجهها حالياً، وهو سر استغراب رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، من صلابة الموقف الصومالي
تتجه العلاقات المستقبلية بين الجارتين إلى سيناريوهات واحتمالات عدّة ستحدد مستقبل التعاون الأمني والدبلوماسي، والتكامل الاقتصادي، وفق رؤية أبي أحمد، في المنطقة التي ترسمها سياسة استمرار التدخّلات الإثيوبية في الشأن الداخلي الصومالي، لكنّ حصول انفراجة بوساطة إقليمية متوقّع في أيّ لحظة، مع بروز أطراف أخرى تسعى إلى حلّ الأزمة الإقليمية، خصوصاً جيبوتي وكينيا، وإقناع مقديشو بدخول مفاوضات مع أديس أبابا لفتح قنوات اتصال مباشر تقطع الطريق أمام محاولات كل من ولاية بونتلاند وإقليم أرض الصومال لتعميق الخلافات أكثر بين البلدين.
ختاماً، لم تشهد إثيوبيا مواقف جادّة وصارمة من الحكومات الصومالية المتعاقبة كتلك التي تواجهها حالياً، وهو سر استغراب رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، من صلابة الموقف الصومالي، والارتدادات العكسية تجاه تحرّكاته أخيراً، للوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأحمر. واستشاطت أديس أبابا غضباً من ردّة فعل الحكومة الصومالية، وشدِّها الرحال نحو القاهرة وأسمرة، لتشكيل تحالف ثلاثي ضدها، وهو ما قد يغيّر قواعد اللعبة والتكتلات في القرن الأفريقي، وأصبحت إثيوبيا تواجه تآكل علاقاتها الدبلوماسية مع الجوار من جهة، ومع حلفائها التقليديين، في مقدّمتها الولايات المتّحدة، من جهة أخرى، خصوصاً بعد تصاعد وتيرة علاقاتها الدبلوماسية مع بكين وموسكو. لذا فإنّ مستقبل التعاون الدبلوماسي بين مقديشو وأديس أبابا يواجه مصيراً مجهولاً ومسارات وعرة، نهايتها القطيعة إن لم يبادر أحد الطرفين إلى كبح الانزلاق نحوها، وفرض انفراجة تذيب جليد التوتر بين الجانبين، وتجنّب المنطقة صراعات لا تُحمد عقباها.